إنه لا لزوم في الكتابة العربية أن توافق سورة الرسم، سورة النطق باللفظ، فإن " داود " يكتب بواو واحدة والنطق بواوين و" عمرو " يكتب بعد رائه واو ولا ينطق بها، ومن ثم لا يصح أن الصحابة أخطئوا حين زادوا مثلاً ياء في كلمة " بأيدي " في قوله تعالى: ? وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ ? [سورة الذاريات، الآية 47]
لقد ذكرت في تبرير الاختلافات بين رسم المصحف والرسم الإملائي أسباب تستحق الاعتبار، وقد تحدثنا في حلقات ماضية عن تطوير الرسم الإملائي وأخذه عن الأنباط الذي يغايرون في رسومهم رسوم المنطوق للدلالات.
قال أبو داود: " والحذف من المصحف إنما وقع في الألف والياء والواو، لبقاء ما يدل عليهن، وكأنهن لم يحذفن لذلك إذ الفتحة قبل الألف تدل عليها، والضمة قبل الواو كذلك، والكسرة قبل الياء مثلهما، كذلك فإن الأحرف الثلاثة المذكورة لما كثر ورودها وجب اختصارها اصطلاحاً من الكاتبين ".
على ذلك لما رأوا حروف المد واللين الثلاثة المذكورة وازت الحروف الخمسة والعشرين، إن الاهتداء على تلاوة القرآن على حقه لا يكون إلا بموقف شأن كل علم نفيس يتحفظ عليه، وقد قيل إن الحكمة في الرسم إلا يعتمد القارئ على المصحف بل يأخذ القرآن من أفواه الرجال الآخذين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالسند العالي.
وقيل إن تغيير كتابة المصحف يجهل الناس بأوليتهم وكيفية ابتداء كتابتهم وهذا في ميدان العلم خسران، ونحن مع تقدير الحجج هذه نقول: إن كتابة المصحف على هذا الرسم هو رسم إملائي نبطي، جاء بهذا الشكل كحكمة أرادها الله سبحانه في مجموع القراءات التي تبيح للقارئ أن يقرأ على أكثر من وجه، ومما يزيد أيضاً صعوبة التلقي من المصحف المكتوب وحده، أن ثمة كلمات رسمت في المصحف بشكل الجمع، مع أن القراء اختلفوا في إفرادها وجمعها.
أمثال الكلمات كلمات ? وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً ? [سورة الأنعام، الآية 125] إذ قرأها بالإفراد عاصم، وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف.
وفي سورة يونس الآية الثالثة والثلاثون، قوله تعالى: ? كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ? [سورة يونس، الآية 33] قرأها بالإفراد سوى نافع وابن عامر وأبي جعفر، وفي سورة غافر الآية السادسة ? وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ? [سورة غافر، الآية 6] قرأها بالإفراد، عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف، وفي سورة يوسف الآية السابعة قوله تعالى: ? لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ ? [سورة يوسف، الآية 7] قرأها بالإفراد ابن كثير، وفي سورة يوسف أيضاً ? وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ ? [سورة يوسف، الآية 10] .. ? وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ ? [سورة يوسف الآية 15]، قرأها بالإفراد ما عدا نافعاً وأبا جعفر.
ـ[محمد بن جماعة]ــــــــ[13 Aug 2007, 06:22 م]ـ
رحلة القرآن العظيم (10)
رأينا في حلقات ماضية دور الخطاطين في بلاد ما وراء النهر في تزيين المصحف الشريف، وكيف كانت هارات معقل الفن والتذهيب والتجليد؟ وكيف نشأ فيها ما يمكن أن نسميه فنون المصحف من خط وتذهيب وتجليد؟ وكانت العلوم الجديدة في هذا المجال قد برهنت على الوحدة الفنية والخطية التي ربطت أقطار الأمة الإسلامية وإتباع نفس القواعد والمدارس وإن شطت الديار وبعدت المسافات.
ولقد رأينا الخطوط اليابسة الكوفية وكيف تطورت في بلاد ما وراء النهر، وأصبحت بديعة الشكل رائعة المنظر بهية المعالم، وأطلق عليها اسم الخطوط المشرقية دون الدخول إلى جورها، وقد أشار " ابن النديم " في الفهرست إلى أن الإيرانيين حين أرادوا كتابة القرآن كان لهم خط يدعى " بالأصفهاني " وأخر يدعى " بقيرموز " أو فيرموز ويرى الباحثون المعاصرون أن قيرموز أو فيرموز معربة عن ديرموز وتعني السهل بالفارسية، وأنهم استولدوا منه عدد من الخطوط التي تصدرت صفحات القرآن العظيم بجملة أشكالها الفنية حتى أطلق عليها العلماء اسم الكوفي المشرقي.
إن المُسَلم به أن الخط الكوفي كان متداولاً في بلاد النهر منذ صدور الإسلام وحتى القرون الخمسة التي تلت بعد، وكانوا يكتبون بـ " القيرموز " القرآن ويزينون به الأبنية.
¥