ووضع الخليل للتنوين العلامة ذاتها مكررة للضمة والفتحة والكسرة، كما رمز الفراهيدي برأس الحاء ليدل على السكون، وقد أخذه فعل خفيف، وقد يكون رأس جيم للدلالة على الجزم.
والميم أيضاً للسكون من فعل جزم، ورأس الشين للشدة من كلمة شديد، ورأس عين لهمزة القطع وحرف صاد لهمزة الوصل، وحرف ميم للمد، وابتكر النساخ علامة الميزان للحروف المهملة، ووضعوا حرف كاف صغير لحرف الكاف المفرد للتمييز بينه وبين اللام وتطورت هذه الأشكال حتى أن وصلت إلى ما هي عليه اليوم، إن هذا الإصلاح في طريقة رسم الحروف ونطق الكلمات كان الدافع إليه الرغبة الصادقة في الإعانة على تلاوة صحيحة، وفهم لكتاب الله عز وجل، وهكذا تحددت معالم السورة للمصحف الشريف كما نعرفه اليوم، إن معظم المصاحف التي وصلتنا من الفترة الزمنية في القرون الهجرية الأولى مكتوبة على الرق، وقد استخدمه الخطاطون المسلمون لسهولة الكتابة عليه، ودوام بقاءه مدة طويلة من الزمن.
وكان الرق من السلع الهامة التي يتاجر بها الفنيقيون من بلاد الشام إلى جميع أنحاء الأرض، منذ أن وضع القرآن العظيم الجمع الأول وربطه زيد بخيط، وأطلق عليه الخليفة أبو بكر اسم المصحف، بدأ التطور في فن صناعة الكتاب يرقى رويداً رويداً، فقد كانت غلافات المصاحف أول الأمر تصنع من الخشب، وتغلف بالقماش والحرير، خالية من أية مسحة فنية أو زخرف، إلا أن الكاتب لم يلبث أن أظهر إبداعاته على السطح الخارجي للقرآن، فامتدت يده إلى مساحة لوح الخشب أو البردي ليطعمه بالعاج والعظم ثم بالأحجار الكريمة في خيال هندسي باهر، ولم يلبث أن كفته بالذهب والفضة.
لقد ولدت صناعة التجليد في أحضان المصحف الشريف، ويذكر ابن النديم في الفهرست أسماء لسبعة من المجلدين المشهورين، وعلى رأسهم " بن ابي الحريش " الذي كان يجلد في خزانة الحكمة للمأمون، ويذكر المقدسي صاحب كتاب " أحسن التقاسيم " الذي كان مجلداً ماهراً أنه رحل لليمن وعلم أهلها الصنعة التي كان قد تعلمها من أهل الشام اللذين تفننوا وابتكروا صنع اللسان، لم يبلغ القرن الرابع الهجري مداه حتى كان تجليد المصاحف قد بلغ مبلغاً عظيماً من الإتقان والإحكام فازدان بزخارف لا تقل عن الزخارف الداخلية روعة وجمالاً.
وأدخل المسلمون لأول مرة في فن التجليد مادة " اللك " للحفاظ على الرسوم الملونة على سطح الغلاف أطول مدة ممكنة، ولتعطي الغلاف بريقاً ولمعاناً جميلاً، لم يكن المصحف الشريف خلال القرون الأولى، إلى جسماً لحرف مكتوب على الرق دون أن تكون عليه أية مسحة فنية وكان الصحابة رضي الله عنهم بداية يتحرجون من إدخال أي شيء على المصحف، وشيئاً فشيئاً تسللت الزخارف إلى المصاحف وحلت في الصفحات الأولى والأخيرة ووجدت في فواصل السور، وفي ونهايات الآيات ومواضع التخميس والتعشير والأجزاء والأحزاب.
ثم لم تلبث أن تجاوزت في القرن الخامس الهجري واتخذت شكل جداول وإطارات زخرفية تحيط بالمساحة المكتوبة من الصفحة، ويوجد في متاحف العالم مصاحف ترجع إلى القرون الأولى وفيها شتى ألوان الحلي الغنية بالزخارف المذهبة.
انتشر المصحف الشريف في أرجاء الأرض وكان الخطاطون والمذهبون قد برعوا في إتقان خطوطه وتذهيبه وإضفاء الحلة القشيبة على مظهره الداخلي والخارجي، وظلت الزخارف بالذهب واللون الأزرق توشح الصفحات وتكسوها مظهراً رائعاً، ولم يكتف المسلمون بذلك، بل ابتكروا فنوناً وحروفاً جديدة خدمة للقارئ والحافظ لكتاب الله، فصنعوا الرحلة كرسي المصحف، وابتكروا له شكلاً جميلاً وهو عبارة عن لوحين من الخشب يتادخلان من الوسط بطريقة التعشيق، وكأنهما كفان قد شبكت أصابعهما وزين الكرسي بزخارف هندسية عجيبة نجمية وهندسية ونباتية، ونجحوا نجاحاً منعدم النظير في حفر الزخارف بعدة طبقات بعضها فوق بعض، وطعموها بالعاج والصدف والقصدير والفضة والأبانوس.
ظلت المصاحف تكتب على الرق حتى ظهور الورق، وقد عرف الورق قديماً فاستعملوه في الكتابة إلا أنه لم ينتشر إلا بعد أن صنعوه بأيديهم، وقد أحدثت صناعته ثورة ثقافية نال منها المصحف الشريف الحظ الأكبر والأوفر، ورغم الأعداد الكبيرة التي كتبت في القرن الثاني والثالث الهجريين فإنه لم يصل سوى عدد قليل منها، ومنها مصحف " ابن البواب " من القرن الرابع الهجري، وتحتفظ به مكتبة " تشيستر بيتي " بدبلن بايرلندا.
إن ظهور الورق ساعد على تطور الكتابة والخط وكان لتطور الكتابة اللينة المذهل في الرسائل والدواوين كان له الفضل في ظهور خط نسخي شامي جميل، كتبت به المصاحف بعد أن غاب خط الكوفة الرصين، وكان " ياقوت المستعصمي " أحد الكتاب الذين طوروا في الخطوط اللينة وكتبوا المصاحف، وتبعه آخرون فسار المصحف يقف على قدر كبير من الإتقان والجمال.
وتضم متاحف العالم اليوم مجموعة كبيرة من المصاحف التي كتبت في القرون الخالية وفيها ما يدل على احترام وتقديس كلام الله عز وجل وإخراجه في أبهى زينة وأكمل منظر.
¥