وتحقق ما دعا به إبراهيم، وبارك الله في ذرية إسماعيل الذي صاهر قبيلة جرهم، حتى كان منه عدنان ومنه معدّ، ونبغ في أولاده مضر ونبغ من أولاد فهر بن مالك، وسمي أولاد فهر بن مالك بن النضر قريشًا وغلب الاسم فسميت القبيلة بقريش، وكانوا أصحاب سيادة وفصاحة اللغة ونصاعة البيان وكان من أولاد فهر قصي بن كلاب، ظل أمر مكة لجرهم حتى غلبهم خزاعة وكانت سدانة البيت فيهم، إلى أن عظم شأن قصي وانضمت له قريش وأجلوا خزاعة عن مكة وتم له أمر مكة وكان سيدًا مطاعًا إليه حجابة البيت وعنده مفاتيحه وتنبل في أولاد عبد مناف.
وكان هاشم أكبر أبناء عبد مناف وعنده السقاية والرفادة وهو والد عبد المطلب جد الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان بنو هاشم واسطة العقد في قريش يتصفون بعلو الهمة والبعد عن الظلم وينصرون الضعيف ويدعون إلى مكارم الأخلاق بالرغم من مسايرة قومهم في عقائد الجاهلية وعبادتها.
بقيت قريش متمسكة بدين إبراهيم وإسماعيل، متمسكة بالتوحيد، وهذا ما سمي بالحنيفية، حتى كان عمرو بن لُحِيّ الخزاعي الذي جلب بعض الأصنام من بلاد الشام بعد أن فُتِنَ بها، ونصبها حول الكعبة وأمر الناس بعبادتها.
إلى جانب عبادة الأصنام ظهرت في بلاد العرب عبادة النجوم والكواكب وخاصة في حران والبحرين والبادية، وانتشرت هذه العبادة في قبائل لخم وخزاعة وعُبدتْ الشمس في بلاد اليمن، قال تعالى: ? إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللهِ ? [النمل: 23: 24].
كما تسربت بعض فرق المجوسية الفارسية إلى بلاد العرب، يقول ابن قتيبة: وكانت المجوسية في تميم، منهم زرارة وحاجب كما أخذ بعض القرشيين الزندقة من الحيرة، وكان الأقرع بن حابس ممن دان بالمجوسية قبل إسلامه وتسربت إلى هجر من البحرين، ودخلت اليهودية بلاد العرب وخيبر ووادي قربى وفدك وتيماء بصفة خاصة عندما نزح اليهود إليها.
ووصلت اليمن ودان بها ذو نواس الملك الحميري وحاول حمل النصارى على اعتناقها وانتشرت كذلك في بني الحارس بن كعب وكندا وكنانة، ودخلت بعض القبائل العربية في المسيحية لقربها من مراكز الحضارة كالغساسنة والمناذرة.
ومن أشهر الأديرة في الحيرة دير هند ودير لجو ودير حارة مريم، وفي جنوب الجزيرة كنيسة ظفار وأخرى بعدن، ولنصارى نجران قصة مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن القبائل التي دانت بالمسيحية بنو أسد بن عبد العزى واعتنقها امرؤ القيس من تميم وبنو تغلب من ربيعة وبعض قبائل قضاعة، وعدي بن حاتم الطائي، ومن أبرز الذين دانوا بالحنيفية دين إبراهيم زيد بن عمرو بن نفيل ويروى أن ورقة بن نوفل خرج معه يبحثان عن دين صحيح فتنصر ورقة وسار زيد على دين إبراهيم.
ومنهم قس بن ساعدة الإيادي وأمية بن أبي الصلت ولبيد بن ربيعة وغيرهم كثير.
يظن كثير من الناس أن مكة كانت قرية صغيرة والحياة فيها بدائية وهي أشبه بمسكن للقبائل فيه مضارب شَعر وتسود فيها الخيام ومعاطن الإبل ومرابط الخيل والغنم ويتبلغ أهلها ببلغة العيش ويلبسون الخشن من اللباس لا يعرفون الأناقة ولين العيش.
وهذه الصورة لا تتفق مع الواقع التاريخي والمتناثر في بطون كتب التاريخ ودواوين الشعر من وصف مكة وأهلها خلال منتصف القرن السادس الميلادي.
والحق أنها انتقلت من منتصف القرن الخامس الميلادي من طور البداوة إلى طور الحضارة وكان ذلك على يد قُصيٍّ جد الرسول -صلى الله عليه وسلم- الخامس، وكان عمرانها محصورًا في نطاق ضيق بين أخشبين هما جبل أبي قُبيس المشرق على الصفا وآخر يشرف على جهة قُعيقعان.
وكان لوجود البيت العتيق في هذا الوادي وما يتمتع به سكانه من شرف ومكانة وأمانة وطمأنينة سببًا في ازدياد العمران فحلت البيوت الحجرية والطينية، ونشأت مكة يحكمها القرشيون بما يملكون من حجابة وسقاية ورفادة.
وكانت لقريش رحلتان تجاريتان إحداهما للشام صيفًا وأخرى لليمن شتاء.
وأشهر الحج يعقدون فيها أسواقهم التجارية فكان منها سوق العطارين وسوق الفاكهة وسوق الرطب وأماكن لبيع الحنطة والسمن والعسل والحبوب، وأزقة للحذائين والحلاقين والحجامين.
¥