وكانت اليمامة ريف مكة، ولأهلها منتجعات في الطائف، وكان سكان قريش يشتهرون بالأناقة في الملبس ويتجملون بالكسوة الفارهة، وكان تجار مكة ينشطون في إفريقية وآسيا ويحملون منها ما يستطرف ويستظرف فينقلون الصمغ والعاج والذهب وخشب الأبنوس ومن اليمن الجلود والبخور والثياب.
ومن العراق التوابل ومن حاصلات الهند الذهب والقصدير والأحجار الكريمة والعاج وخشب الصندل والتوابل والزعفران، من مصر والشام الزيوت والغلال والأسلحة والحرير.
وكانت من النساء تاجرات لهن نشاط في إرسال القوافل قال تعالى: ? لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ ? [النساء: 32]، لقد أثرى كثير من أبناء مكة فكانت قوافلهم تنوف على الألف جمل، وكانوا يتعاملون بالعملة الرومانية البيزنطية والإيرانية الساسانية.
كما استعملوا الموازين والمكاييل وعندهم علم بالحساب أقرهم عليه القرآن العظيم في ذكر السهام والفرائض، لقد اشتهرت بيوت وأسر مكة بالثراء وسعة المال ورقة العيش، يمتاز فيها بنو أمية وبنو مخزوم يشربون بآنية من ذهب وينفقون أموالهم في الترف ومجال اللهو وأندية الشراب، وعامة مجالس أشرافهم ينشد فيها الشعر ويقبل عليها كبار شعراء الجاهلية كـ لبيد بن ربيعة وغيره، وكانوا يحتقرون صناعات يستخدمون لها الموالي والأعاجم ويستعينون بعمال الروم والفرس لبناء دورهم وبهذا المركز الديني والمكانة الاقتصادية وقيادة النشاط التجاري والتقدم في المدنية والآداب أصبحت مكة كبرى مدن الجزيرة العربية وبدأت تنافس صنعاء اليمن في زعامة الجزيرة، بل إنها تفوقت عليها بعدما استولت الحبشة على اليمن وتملك الفرس في منتصف القرن السادس الميلادي وفقدت مملكة الحيرة ومملكة غسان الشيء الكثير من العظمة والأبهة وهكذا غدت مكة عاصمة جزيرة العرب الروحية والاجتماعية من غير منافس.
حل القرن السادس الميلادي والحرب قائمة بين نصارى الشام والدولة الرومانية ونصارى مصر لاختلافهم حول طبيعة السيد المسيح -عليه السلام- في الدولة الرومانية الشرقية ساءت أحوال وقامت فتن وثورات وهلك عام خمسمائة واثنين وثلاثين للميلاد في القسطنطينية وحدها ثلاثون ألف شخص.
وفي مصر البيزنطية ساد الاضطهاد الديني والاستبداد السياسي والبؤس والفقر ولم ينقذهم من ذلك إلا المسلمون كما جاء في كتابة غوستاف لوبون، وفي سورية البيزنطية سادت المظالم إلى حد كبير اضطر كثير من السوريين لبيع أبنائهم لوفاء ديونهم، وفي أوربا والغرب كانت الحروب الدامية من أجل فلسفات لا تسمن ولا تغني من جوع، وفي بلاد فارس إيران المجوسية فقد كانت الزرادشتية حربًا على العقائد القديمة وظهرت فرق مجوسية عبدة النار.
ولما غزا الإسكندر المقدوني إيران في القرن الرابع قبل الميلاد اختفت الزرادشتية ولم تظهر إلا بعد خمسة قرون، وفي القرن الثالث قبل الميلاد ظهر ماني بمذهبه المزيج، وقتله الملك بهران، وفي الصين كانت ديانة لاتسو وكونفوشيوس والبوذية وعبادة أرواح الآباء وتسربت لمنهج الحياة الأوهام وعبادة السحر، ثم ما لبثت أن قفلت بعد أن سادت ألف سنة.
اللغة العربية من أغنى اللغات وأعرقها وأخلدها وأعذبها منطقًا وأسلسها أسلوبًا وأغزرها مادة.
اللغة العربية هي إحدى اللغات السامية إلا أنها تمتاز عنهن جميعاً بأنها أقرب إلى السامية الأم، ويعود ذلك إلى أنها أحدث اللغات انفصالاً وإلى أنها كانت بعيدة عن مؤثرات الامتزاج والاختلاط بسبب هذا السياج الشائك المحرق الذي ضربته الصحارى والبحار من حول الجزيرة العربية، فامتنعت على المغيرين والغازين ومنعت العرب من الامتزاج العميق.
لقد امتازت اللغة العربية بأنها أرقى اللغات السامية وأفضلها، فقد اقتبست من أخواتها الساميات أفضل ما فيها من الألفاظ والمصطلحات وأخذت خير الخصائص والصفات فأصبحت لغة خصبة راقية، وكان لها من عوامل النمو ودواعي البقاء والرقي ما قلما يتهيأ لغير، وذلك لما فيها من اختلاف طرق الدلالة وغلبة التصريف والاشتقاق والنحت والقلب والإبدال والتعريب، وورود القرآن العظيم بلسانها، وما رواه لنا منها أئمة اللغة وجاء به القرآن العظيم والحديث النبوي هو نتيجة امتزاج لغات الشعوب التي سكنت الجزيرة العربية.
¥