وبعد عودته من حجة الوداع بثلاثة أشهر ألم به المرض عشرة أيام وانتقل إلى الرفيق الأعلى في يوم الاثنين في الثاني عشر من ربيع الأول وهو ابن ثلاث وستين سنة، لقد انقطع الوحي وختم القرآن العظيم وتمت آياته، وغدا الدستور الخالد للأمة يحفظه الله على تعاقب الأزمان واختلاف السكان.
وقد استمر علماء المسلمين طيلة قرون يبذلون جهودًا عظيمة في خدمة المصحف، فنقطوه وأعربوه وعرفوا بمواضع الوقف والابتداء، ووضعوا العلوم المتنوعة لخدمته، وتكونت مكتبة نفيسة في علومه.
وقد أثار حفظه وتدوينه إعجاب المنصفين من علماء الغرب، قال "لوبلوا": من ذا الذي لم يتمن لو أن أحدًا من تلاميذ عيسى الذين عاصروه قام تدوين تعاليمه بعد وفاته مباشرة، لقد ظل القرآن العظيم يغذي عقول وأرواح المسلمين ويذكي فيهم الطموح إلى المعرفة والاندفاع لبناء الحضارة وتشييد المدنية، ويبين لهم أسباب ذلك بما حواه من قوانين الأخلاق ومبادئ الاجتماع وإقرار العدل وتحقيق السلام، قال دكتور "موريس بوكاي": إن القرآن أفضل كتاب أخرجته العناية الإلهية الأزلية لبني البشر.
لم يكن القرآن العظيم إلا كتاب فيه إرث ثقافي عظيم، إن أربع آيات من القرآن العظيم تبسط ما جاء به من إصلاح ثقافي وتربوي، قال تعالى في سورة البقرة: ? رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ? [البقرة: 129].
وقال أيضًا: ? كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ? [البقرة: 151].
وفي سورة آل عمران: ? لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ? [آل عمران: 164].
وفي سورة الجمعة: ? هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ? [الجمعة: 2].
وتنص هذه الآيات الأربع على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث ليتلو القرآن العظيم عليهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.
لقد أنشأ النبي -صلى الله عليه وسلم- أول جامعة علمية هي مسجده في المدينة المنورة وأُجيز منها تلامذته وهم من الخلفاء الراشدين والعشرة المبشرة بالجنة، وآلاف الصحابة الذين نشروا الدعوة.
وكان مسجد الكوفة والبصرة ومسجد دمشق وبيت المقدس والفسطاط والقيروان موائل علم وثقافة في آسيا وإفريقية وأوروبا، ولما ضاقت المساجد بما رحبت كان لابد من إنشاء مدارس ودور للتعليم، وكانت بلاد ما وراء النهر أسبق البلاد الإسلامية في تأسيس المدارس الفقهية المنفصلة عن المساجد، فظهرت في حدود سنة 290 هجرية أقدم مدرسة منفصلة.
وبعدها كانت مدرسة النيسابور التي أسسها "حسان بن محمد الأموي"، وظهرت بعد ذلك أكثر من مائتي مدرسة في الشرق الإسلامي والعراق والجزيرة والأناضول، وازدهرت دمشق بمدارس القرآن العظيم والحديث وغير ذلك وتفردت من بين بغداد والقاهرة والقدس وجميع مدن العالم الإسلامي بكثرة المدارس ودور القرآن العظيم، إن أول مكان منفصل عن المسجد كانت تلقى فيه الدروس بدمشق ويخصص له المدرسون والأوقاف كان دار القرآن الرشائية، في أوائل القرن الخامس الهجري، وبذلك انفك الطلبة من الحلقة التي كانت تعقد في المسجد أمام سارية من سواريه أو في طرف من أطرافه.
وأول مدرسة بنيت في القاهرة هي المدرسة الناصرية المؤسسة سنة 566 هجرية، وأما بغداد فقد أسست فيها المدرسة النظامية سنة 459 هجرية، أي إن دمشق سبقت بغداد بنحو 60 سنة، وسبقت القاهرة بـ 166 سنة، وسبقتها بلاد ما وراء النهر بأكثر من 100 سنة.
إن مدارس القرآن العظيم التي أسست في دمشق كانت تنمو وتزداد كلما خطا الزمان خطوته، وبلغت الذروة في القرن التاسع أي في زمن المماليك، وقد عرضنا في حلقة ماضية كيف أن يزيد بن أبي سفيان أرسل للخليفة عمر كي يعينه بقراء يقرءون القرآن العظيم.
¥