تطور الخط العربي في أحضان القرآن العظيم تطوراً مذهلاً سريعاً، وعني المسلمون به عناية فائقة، حتى أصبح تحفة فنية ثمينة.
وإذا ما أتيح للإنسان النظر والتأمل في مخطوط من مخطوطات المصحف، فإنه سيقف مجدوهاً لا يدري بأي شيء يعجب، ألجمال الخط ورشاقته، أم للدقة في رسم الزخارف المذهبة وروعتها، أم لتناسق الألوان واتساقها ونضارتها، أم لنقوش الغلاف الجلدي الذي حمل أساليب شتى من ضروب الفن!!
لقد كانت المصاحف الشريفة ميداناً لفن تجويد الخط وتنوعه، فقد كتبت المصاحف الأولى بالكوفي، بألوانه وأشكاله وتعدد أنماطه، حتى آذن فجر القرن الخامس الهجري بالمغيب، وتقدمت الخطوط اللينة، لتأخذ مكانها على صفحات المصحف من محقق وريحان، وتوقيع، ونسخ.
وبين أيدينا صفحة بخط نسخ بديع "ليحيى الصوفي" تعود لسنة 739 هجرية، يحتفظ بها متحف الآثار الإسلامية بتركيا، وهي إحدى صحيفتي الصدر في المصحف والتي اصطلح على تسميتها بـ"سار لوحة".
وداخل المصحف بدون تغييبه كتب على الطريقة ياقوت المستعصمي فجعل سطراً بالمحقق وأحد عشر سطراً ثم سطراً أخيراً بالمحقق، أما رؤوس السور فقد كتبت بخط التوقيع بمداد الذهب، كما كتبت أسماء السور وعدد آياتها بالخط الكوفي.
ومن المصاحف الجميلة التي وصلتنا من مدينة "هراه" مصحف بخط شمس الدين باسنقري، المتوفى سنة 850 ويحتفظ به متحف الآثار التركية الإسلامية، وفيه سورة الفاتحة وأول البقرة، وقد كتب المصحف بخط النسخ محاكاةً لياقوت المستعصمي، والمصحف هذا تحفة فنية رائعة نادرة في خطه وزخرفته على السواء.
وفرغ من كتابته في نفس العام الذي توفي به باسنقرى، ونلاحظ في صحيفتي صدر المصحف هاتين أنه كتب أسماء السور وعدد آياتها بالخط الكوفي، وزخرف نهاية الآيات بأشكال زخرفية رقيقة، بينما ملأ ما بين السطور بأشكال تشبه الغيوم، وبوحدات زخرفية نباتية.
وللمصحف ظهرية بديعة، والظهرية صحيفة أو أكثر تلي صحيفتي الصدر في المصاحف.
كما جاءتنا أوراق من مصحف جميل للغاية بخط المحقق والنسخ والثلث، وقد خطها على أسلوب ياقوت محمد بن سلطان شاه الهروي، سنة 890 في هراة، وتحتفظ به مكتبة سراي تبقابي ونقرأ فيه من أواخر سورة "يس" في رأس الصفحة:
? فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) أَوَ لَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِّنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) ? [يس: 75: 83].
إن جمال التنسيق والعناية البالغة في هذا المصحف جعلته من النوادر، بالإضافة إلى التنويع في أنماط الخط.
لقد ارتأى الخطاط الفنان أن يكتب السطر الأول بخط المحقق، ثم يكتب ستة أسطر بالنسخ، ثم سطراً بالثلث، ثم ستة أسطر بالنسخ، ثم سطراً بالمحقق، وآثر أن يكتب النسخ بالمداد الأسود، والمحقق والثلث بالذهب المسور بالأسود، ويدل هذا على ذوق رفيع وأناقة في توازن اللون على صفحات المصحف.
ثم انتقى اللون الأزرق والأسود ولون الزهر والأبيض للمرصعات والحليات والمسكاوات، التي حملت رموز التخميس والتعشير.
إن دقة التصوير للآيات التي كتبت بالذهب وتشغيرها يعطي الإنسان فكرة عن مقدار الصبر الذي تحلى به الخطاط بالإضافة إلى متانة اليد في رسم الخطوط، وملء الفراغات في الحروف باللون الأسود.
ونلاحظ أيضاً أنه ترك أربع مسافات على جوانب سطور النسخ مما أضفى على المصحف جمالاً وجاذبية.
¥