لقد عرف شاه محمود بلقب زري القلم، أي صاحب القلم الذهبي، ولد في نيسابور، وتعلم قلم التعليق، وأخذه عن خاله عبدي نيسابوري، ثم عن الخطاط الشهير سلطان علي المشهدي، ويقال إن الشاه إسماعيل الصفوي كان يحبه ويجله، فلما وقعت الحرب بين العثمانيين بقيادة السلطان سليم الأول وبين الصفويين بقيادة الشاه إسماعيل وخشي الشاه أن يفر محمود إلى جانب العثمانيين نظراً لأنه كان سنياً أخفاه مع الرسام بهزاد في إحدى المغارات.
وكان الشاه محمود يعمل خطاطاً في خزانة الكتب طه ماسيبر ابن الشاه إسماعيل.
ثم قضى بعد ذلك عشرين عاماً من حياته في مشد، عمل خلالها بالتدريس وقدم وهو في الثامنة والثمانين من عمره أعمالاً جميلةً لا تنسى، وقرض الشعر، وكان نابغةً عبقريةً قلّ نظيرها.
ومن النماذج الفريدة التي وصلتنا من خط المحقق، نسخة قرآن كريم تحتفظ بها مكتبة جامعة إسطنبول، وهي من أجمل النماذج في إتقان خط المحقق، وقد شرع في إنجازه عبد الله القرمي نسبة إلى بلاد القرم، ولكن العمر لم يسعفه فتولى تلميذه عمل ما تبقى.
عرف عبد الله بلقب التتري أو القرمي، نسبة إلى بلاد القرم التي نوح منها، وقد أخذ الأقلام الستة عن أستاذه درويش محمد بن مصطفى ددا.
فأتقنها وأجادها، وأصبح واحداً من الخطاطين البارزين، ونقرأ في هذه الوثيقة من أول سورة الأنعام:
? الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) ? [الأنعام: 1: 3].
إن ما نلاحظه في هذه الوثيقة هو العناية الفائقة بخط المحقق وترك توزيع الآيات وتنسيقها فلم يفصل بين الآيات، وإنما جاءت ملتفة مع بعضها دون توقف، وهذه من طبيعة نمط الخط الذي يكتب به.
ومن الغرائب أن هذا الخطاط شعر بدنو أجله فأعد قبره بنفسه، وكتب شاهدة قبره بخطه وأرخ سنة الوفاة فوضع على الشاهدة رقمي 9 متجاورين، وترك مكاناً فارغاً بينهما وقال: إن تلميذاً هو الذي سيضع التسعة الأخيرة.
وبالفعل كانت سنة وفاته سنة 999 هجرية، ولا تزال شاهدة قبره محفوظة في متحف الآثار الإسلامية التركية باسطنبول.
وفي مكتبة سراي طبغابي مصحف خط بالثلث والنسخ، ولم يبقى منه سوى تسع وسبعين ورقة وقد خطه أحمد قره حصاري المتوفى سنة 963 هجرية، والتي توافق سنة 1556 ميلادية.
ونشاهد في هذه الصفحة والوثيقة جمال خط الثلث المكتوب بالذهب المصور بالمداد الأسود، وفي الحروف تطور عما كنا نراه من قبل في الثلث والنسخ، بالإضافة إلى التفاف الكلمات وتوازنها والكتابة على طريقة التركيب.
وآثر الخطاط أن يفتتح الصفحة بالثلث لا بالكوفي، ولا المحقق، ثم أرسل قلمه إلى النسخ الواضح على طريقة ياقوت، وتجاوز عما كان عليه السلف في الكتابة والتوزيع، فقد كانوا من قبل يخشون أن تختلط أسماء السور بالكتابة، ويلجئون إلى تغيير نمط الخط حتى في المصاحف التي كتبت بالخطوط اللينة، فقد يأتي اسم السورة بالكوفي أو بالتوقية أو بأي نوع مخالف للنص.
ولكن القرة حصاري هنا كتب بذات الأسلوب الذي خطت فيه الآيات، فكلمة "سورة الفاتحة" وهي سبع آيات، وسورة الأنعام 165 آية هي من ذات السطر الأخير في الصفحة.
كما استخدم رموز التشكيل طريقة الخليل ولم يلتزم بإملاء وإشارات ورموز مصحف الإمام.
وفي المتحف الوطني بدمشق مصحف آخر لأحمد قرة حصاري كتب على ذات الطريقة والأسلوب.
مرت على تدوين القرآن العظيم قرون، وكان أن خطت حروفه الأولى على سعف النخل، والعظام والحجارة، والأقتاب والرقع وورق البردي، وكان الورق الذي تعلم العرب صناعته العامل الأكبر في انتشار العلوم والفنون وتدوين القرآن، وتسابق الخطاطون ليطوروا ويحسنوا ويجملوا شئون الكتابة، والقرآن العظيم غايتهم وكلام الله -عز وجل- دافعهم إلى الرفعة وبلوغ المرام.
¥