وتدرجت المصاحف عبر التاريخ في حلل شتى، وعني المسلمون بأنواع وأنماط الخطوط المختلفة من أجل قرآنهم العظيم عناية ما بعدها عناية، وكتبوه على صفائح الذهب والفضة، وعلى صفائح العاج، وطرزوا آيات القرآن العظيم بالذهب والفضة على الحرير والديباج، وزينوا بها محافلهم ومنازلهم ونقشوها على الجدران في المساجد والمكاتب والمجالس، ورسموه بكل الخطوط وأجملها على كل أصناف الرقوق والكواكد بالأدراج والكراريس والرقاع بأصناف المداد وألوانها.
وملئوا بين الآيات بالذهب، وكان الخلفاء والأمراء والسلاطين يتبركون بكتابة المصحف بأيديهم، ويحفظونها في المساجد أو نحوها.
وهكذا تحول المصحف الشريف من دستور حياة ومنهج عمل إلى وسيلة تزين بها الأماكن، ويتفاخر الناس به، بكتابته بالذهب والفضة، ونحن نعلم أن القرآن لم ينزل لهذا الأمر، ولقد عرضنا في الحلقات الأولى تاريخ ورحلة القرآن العظيم منذ أن دون في عصر النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، ثم في عصر الخلفاء الراشدين عصر أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، ثم زمن الأمويين والعباسيين، وفي الدولة الحمدانية والفاطمية والزنكية والأيوبية والمملوكية، وفي الصين والهند والتركستان وإفريقية والمغرب وبلاد الشام وفارس، وفي أسيا الوسطى، واعتنت هذه الشعوب التي دخلت بوتقة الإسلام بكتابها العظيم، وكل يريد أن ينال السبق والشرف في تعلمه وتجويده، وتجميل صفحاته وخطوطه.
قال -عليه الصلاة والسلام-: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).
وصل القرآن بهذه الصورة البهية إلى العصر المملوكي، واشتغل المماليك بخطه ونقشه وزخرفته فبلغوا درجات الجمال وارتقوا سلم الكمال.
ولم يكن الصفويون في بلاد فارس بأقل منهم درجة وما إن سيطر العثمانيون السلاجقة الأتراك على البلاد وأنشئوها خلافة إسلامية حتى كان سلاطينهم وخلفاؤهم من أوائل من تذوقوا ورعوا كتابة المصاحف حتى نبغ فيهم أفاضل الخطاطين في كتابة القرآن العظيم.
ونحن نعلم أن الدولة العثمانية تأسست سنة 699 هجرية والتي توافق سنة 1341 ميلادية، وكانت متصلة بدولة سلاحقة الروم، ومنها أخذوا استقلالهم وثقافتهم، وتعلموا الخط على أيديهم ثم عن الفرس والعرب.
ولما فتحوا المدن مثل بروسا وأدرنه تقدموا في الثقافة والفن، ثم فتحوا القسطنطينية في سنة 857 هجرية، والتي توافق سنة 1453.
ويعد هذا التاريخ بداية تقدم خطوطهم في المصاحف، وما إن فتحت بلاد الشام في سنة 922 هجرية والموافقة لسنة 1517 ميلادية أيام السلطان سليم ياووز ثم مصر وبغداد، حتى حمل السلطان كنوزاً رائعة من المصاحف إلى عاصمته إسطنبول لتصبح موئل الفن في كتابة القرآن العظيم.
وبظهور حنظلة بن الشيخ سنة 833 هجرية الموافق لسنة 1429 ميلادية يصبح خط النسخ في المصاحف المتفرد الوحيد، وليتحول على يديه إلى تسميته خط المصحف.
إن حنظلة هو ابن مصطفى دداه، أحد أتراك بخارى الذين هاجروا إلى بلدة أناسيا في آسيا الصغرى، فقد اضطلع حنظلة على خطوط المستعصمي والصيرفي وأصبح نابغة في النسخ.
وحين كان السلطان بايزيد بن محمد الفاتح والياً على أماسيا تعرف على حنظلة وأخذ الخط على يديه، ولما صار سلطاناً بعد وفات أبيه ضمه إلى بلاطه في اسطنبول.
وكان السلطان بايزيد يجله إجلالاً كبيراً، ويمسك له الدواة وهو يكتب، ويجلسه في صدر المجلس ويقول: إن يداً تخط القرآن الكريم لابد أن نجلها ونحترمها ونعظمها، وتحتفظ مكتبة جامعة اسطنبول قسم يلدز بنسخة من مصحف جميل بخط النسخ، خطه على طريقته الخاصة، وعلى أحد عشر سطراً وهو واحد من سبعة وأربعين مصحفاً حطها الشيخ.
ونرى في الصفحتين الأخيرتين من مصحفه هذا آخر سورة المسد والإخلاص والفلق والناس.
ثم قيد الفراغ من كتابته، وقد نقش المصحف وزخرف على الطريقة التقليدية الرومية، ويظهر الأسلوب العثماني التقليدي فيه، والذي بدأ منذ هذا العهد من كتابة حنظلة.
كما نلاحظ أسلوبه في كتابة القرآن العظيم عند ابنه مصطفى ددا، الذي تعلم على يديه أيضاً في نسخة تحتفظ بها مكتبة جامعة اسطنبول، وهذه النسخة فريدة كتبها على أحد عشر سطراً مقلداً أباه في التنسيق والتحسين، ونلاحظ ذلك في هاتين الصفحتين.
¥