تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وفي الحبشة أتيح للعرب والمسلمين الذين هاجروا إليها من أن يطلعوا على كتب في شكل دفاتر وكراريس، فلم يكن غريباً أن يطوروا ويحسنوا في تجليد كتابهم الأقدس القرآن العظيم.

لقد نسخ المصحف زمن الخلفاء الراشدين وبقيت الدروج تستعمل في شكل دفاتر وكراريس في التآليف الصغيرة حتى زمن العباسيين، وحتى منتصف القرن الهجري الثاني، وليس للعرب من كتاب إلا القرآن العظيم.

لقد خرجت نسخ المصحف الشريف من المدينة المنورة إلى الأمصار، وكل واحدة منها بين لوحين بسيطين من الخشب لا فن فيهما ولا حلية ولا زخرفة، ثم لم يلبث العرب أن وجدوا عند أقباط مصر رقياً وازدهاراً في هذا الفن، فلم يجدوا بأساً في أن يقتبسوا من فنهم بعد أن دخلت مصر تحت راية الإسلام.

وكان أهل مصر يستعملون البردي كخامة جيدة للتجليد، وتغليف المصاحف الصغيرة منها والمتوسطة.

أما المصاحف كبيرة الحجم التي تنسخ للمساجد فلا مجال لاستخدام البردي لها.

منذ أواخر القرن الهجري الثاني على وجه التقريب، بدأ الجلد يدخل في صناعة التجليد العربية على استحياء، فاستعملت منه شرائط في لصق الكعبين، ثم كانت مرحلة التوسع والتفنن والزخرفة بحيث اكتسب قيمةً جمالية.

إن صناعة التجليد وجدت في بلاد العرب تربة خصبة تمدها بأسباب النمو والازدهار، ومع كثرة النساخ للقرآن العظيم، وكثرة النسخ تقدمت صناعة التجليد تقدماً مذهلاً.

يقول المقدسي في أحسن التقاسيم: وكذلك كانت الأدم تجلب من اليمن في عصر الجاحظ وقبل عصره، وكانت اليمن معدن العصائب والعقيق والأُدم والرقيق، واشتهرت مدن زبيد وصعدة بدباغة الجلود منذ العصر الجاهلي، وكانت الطائف بلد الدباغ، وامتازت عدن بجلود النمور التي كانت تجلب من إفريقية.

لقد استطاع المسلمون أن يتفوقوا على ما صنعه المسيحيون والمانوية والزردشتية في هذا المضمار.

وفي العراق وبلاد الشام ودمشق خاصةً وبلاد الأندلس كان الاهتمام بتجليد القرآن العظيم والكتب بالغاً وعظيماً، وقد حض أمراء المسلمين وسلاطينهم على ذلك، ودفعوا الجوائز والمكافئات للنسخ الجميلة بسخاء منقطع النظير، وإذ لم يبقى من تجليدات القرون الأولى للهجرة شيء ذا بال، إلا أنه من غير المعقول كما يقول جروهمن أن تزدان صفحات المصاحف الأولى والفواصل بين السور والآيات ومواضع السجدات بالزخارف الملونة، في حين تبقى جلودها عارية من الحلي والزخارف.

وبين أيدينا مصادر ونماذج ونصوص وأخبار تدل على أن التجليد العربي كان قد وصل إلى درجة عالية من التقدم والرقي على مشارف القرن الرابع الهجري، وفي المصاحف جميعاً.

فالخطيب البغدادي يذكر أن المصاحف كانت مبطنة بالحرير والديباج، مجلدة بالأديم الجيد ويحدثنا المقدسي أنه حين رحل إلى اليمن في القرن الرابع وجد الناس هناك يلسقون الدروج ويبطنون الدفاتر بالنشاة.

أما هو فكان قد تعلم الصنعة على يد أهل الشام، الذين كانوا يستعملون الأشراس بدل النشاة، والذين كانت صنعتهم أدق وأرقى، بدليل ما يذكره من أن أمير عدن بعث إليه مصحفاً يجلده له، وأن أهل اليمن كان يعجبهم التجليد الحسن، ويبذلون فيه الأجرة الوافرة، حتى لقد كان يعطى على تجليد المصحف الواحد ديناران.

وهكذا كان لأهل الشام طريقتهم في التجليد، ولأهل اليمن طريقتهم، ولا شك أن كل إقليم كانت له طريقته الخاصة في فن التجليد، ونستطيع أن ندرك جيداً إلى أي حد من الرقي وصل فن التجليد الإسلامي في المصاحف في تلك الفترة المبكرة إذا رجعنا إلى جلدتين من جلود المصاحف محفوظتين في مكتبة "ألبرتين" بفينا ضمن مجموعة الأرشدوق "رينر".

وهما من القرن الرابع الهجري، غنيتان بالزخرفة النباتية والهندسة الدقيقة، وتدلان على ما وصل إليه المسلمون من إتقان الصنعة منقطعة النظير.

إن الشرائط الزخارف النباتية كانت تشكل إطاراً لا غنى عنه في زخرفة جلود المصاحف، ولعلنا لا نبالغ إن قلنا إنها كانت أساس جماليات المصحف.

وإنما يعرف بلسان المصحف الذي وجد ليقي المصحف من التمزق والبلى كان من صنع أهل الشام، وأصبح خاصة من خصائص التجليد في القرن الثالث الهجري.

وبدراسة الزخارف الموجودة على بطانات جلود المصاحف التي يمكن إرجاعها إلى القرنين الرابع والخامس نلاحظ أن بعض الأشكال كان يتكرر بحيث يملأ المساحة كلها.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير