والقرآن العظيم عند مراعاته المعنى اللغوي الأصلي للإيحاء حين سمى ذلك وحيًا لم يقصر ذلك على الاتصال الغيبي الخفي بين الله وأصفيائه على تنزيل الكتب السماوية بوساطة ملك وحي بل أشار إلى صور ثلاث في آية واحدة:
إحداها: إلقاء المعنى في قلب النبي أو نفثه في روعه.
والثانية: تكليم النبي من وراء حجاب، كما نادى الله -عز وجل- نبيه موسى من وراء الشجر وسمع نداءه.
والثالثة: ما يفهمه الناس حين يلقي ملك الوحي المرسل من الله إلى نبي من الأنبياء ما كلف إلقاءه إليه سواء أنزل عليه في صورة رجل أم في صورته الملكية.
وبهذا نطقت الآية الكريمة: ? وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) ? [الشورى: 51].
إن ظاهرة الوحي في القرآن العظيم تختلف عن جميع مظاهر الوحي اللفظية التي استعملت قديماً وحديثاً، ولابد لنا من أن نستخدم الألفاظ كما هي في مدلولها، ولا نحور ما يشابه أو يشتبه بها، كالإلهام والحدس الباطني، واللاشعور، الشعور الداخلي، وطبيعة الحقائق الدينية والأخبار الغيبية في ظاهرة الوحي تأبى الخضوع لأساليب اللاشعور والحدس والفراسة.
لقد وصف النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- فيما صح من حديثه طريقة نزول الوحي على قلبه فقال: (أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول).
لقد كشف النبي -صلى الله عليه وسلم- صراحةً عن صورتين من الوحي، إحداهما: عن طريق إلقاء القول الثقيل على قلبه، وعندها يسمع صوتاً متعاقباً كصوت الجرس المجلجل، والثانية: عن طريق تمثل جبريل له بصورة إنسان يشابهه في المظهر ولا ينافره، ويطمئنه في القول ولا يرعبه، ولا شك أن الصورة الأولى أشد وطأة كما قال الله -تعالى-: ? إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلاً (5) ? [المزمل: 5]، وكان يصحب ذلك رشح الجبين عرقاً كما قالت السيدة عائشة أم المؤمنين: (ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً).
بل كانت وطأة الوحي في هذه الصورة تبلغ أحياناً أشد ثقلاً فتبرك راحلته للأرض إذا كان راكبها.
وأما الصورة الثانية فهي أخف وطأً وألطف وقعاً، فلا رشح ولا جلجلة، وفي الصورتين يحرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على وعي ما أوحي إليه، فقال في الأولى: (فيفصم عني وقد وعيت ما قال)، وفي الثانية: (فيكلمني فأعي ما يقول).
بهذا الوعي الكامل لم يخلط -عليه السلام- مرة واحدة بين شخصيته المأمورة المتلقية، وشخصية الوحي الآمرة المتعالية طوال مراحل التنزيل.
فهو واعٍ أنه إنسان ضعيف بين يدي الله، يخشى أن يحول الله بينه وبين قلبه، فيبتهل لربه: (اللهم يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك، اللهم يا مقلب القلوب ثبتي قلبي على دينك).
وكان أول عهده بالوحي يعجل بالقرآن مخافة النسيان، فيسر الله عليه حفظه وطمأن قلبه فقال: ? لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) ? [القيامة: 16: 19].
ونهاه عن العجلة التي لا مسوغ لها فقال: ? وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ? [طه: 114].
إن صورة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في القرآن هي صورة العبد المطيع الذي يخاف عذاب ربه إن عصاه، فيلتزم حدوده، ويرجو رحمته، ويعترف بعجزه المطلق عن تبديل حرف من كتاب الله: ? وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُل لَّوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (16) ? [يونس: 15، 16].
¥