إن في هذه الآيات فرقاً بين صفة الخالق وصفة المخلوق، وهذا المعنى كثيراً ما يتكرر في القرآن العظيم، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بشر مثل سائر البشر لكنه يوحى إليه، ليس عليه إلا البلاغ، ولا يزعم لنفسه صفةً ملكية تغاير صفة الإنسان، ولا يعلم الغيب، ولا يملك خزائن الأرض، قال تعالى في فصلت: ? قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ? [فصلت: 6]، وفي الأعراف: ? قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ? [الأعراف: 188]، وفي الأنعام: ? قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ? [الأنعام: 50].
ولتصدير الآيات بعبارة "قل" مغزاً لطيف يفهمه العربي بالسليقة، وهو توجيه الخطاب للرسول -صلى الله عليه وسلم- وتعليمه ما ينبغي أن يقول، فهو لا ينطق عن هواه، بل يتبع ما يوحى إليه.
ولذلك تكررت عبارة "قل" في القرآن العظيم أكثر من ثلاثمائة مرة، ليعلم القارئ أن محمد -صلى الله عليه وسلم- لا دخل له بالوحي، فلا يصوغه بلفظه ولا يلقيه بكلامه وإنما يلقى إليه الخطاب إلقاءً.
ويأتي الفرق واضحاً في الآيات التي يعتب فيها الله -سبحانه وتعالى- على نبيه، ففي غزوة تبوك يعاتبه بشأن من أذن لهم بالقعود فيقول جل شأنه في سورة التوبة: ? عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) ? [التوبة: 43]، والعتاب الشديد نقرأه في آيات الفداء في سورة الأنفال وقد جاء عنيفاً صادعاً منذراً متوعداً إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الذين أشاروا عليه بأخذ الفداء من أسرى بدر، مؤثرين عرض الحياة الفاني على نصرة الدين في أول معركة، وقد صيغ العقاب صياغة عامة تحدد صفات الأنبياء والرسل.
قال تعالى: ? مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآَخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) ? [الأنفال: 67، 68].
ويقرب من هذا العتاب ما أدب الله -سبحانه وتعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم- حين جاءه الأعمى عبد الله بن أم مكتوم -رضي الله عنه- والنبي -صلى الله عليه وسلم- يدعوا أكابر قريش للإسلام، ظناً منه بالاستجابة والإعلاء لدين الله بهم، ونزلت الآيات: ? عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَن جَاءَهُ الأعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) ? [عبس: 1: 11].
وأشد من ذلك كله ما يوجه للرسول -صلى الله عليه وسلم- من الإنذار والتهديد في مثل قوله تعالى في سورة الإسراء: ? وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً (74) إِذًا لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) ? [الإسراء: 74، 75].
وهذا الإنذار يبلغ القمة فيصغر بعده كل تهديد وكل وعيد حين يقول جل شأنه: ? وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ (44) لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) ? [الحاقة: 44: 47].
يتبين لنا من خلال هذه الآيات المتوعدة المنذرة والعاتبة المؤدبة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان كامل الوعي للفرق بين ذاته المأمورة وذات الله الآمرة، وبوعيده الكامل كان يفرق بين الوحي الذي ينزل عليه وبين أحاديثه الخاصة التي كان يعبر عنها بإلهام من الله.
قال تعالى: ? وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4) ? [النجم: 3، 4].
¥