تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ[محمد بن جماعة]ــــــــ[14 Aug 2007, 08:41 م]ـ

رحلة القرآن العظيم (20)

استقلت ظاهرة الوحي عن ذات النبي -صلى الله عليه وسلم- استقلالاً مطلقاً، وتفردت عن عوامله النفسية تفرداً كاملاً، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لا يملك حتى حق استخدام ذاكرته في حفظ القرآن العظيم، بل الله يتكفل بتحفيظه إياه، ولقد بطل هنا قانون التذكر، وعفا تجاه إرادة الله -عز وجل- ومع أن أقوال النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحاديثه المتعلقة بالتشريع توقيفية تلقى من الوحي مضمونها، فقد جردها الكتبة بالرغم من صلتها الشديدة بالآيات التي تفسرها؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- صاغها بأسلوبه وبينها بلفظه، وما كان لأسلوبه ولا لأسلوب أحد أن يختلط بأسلوب القرآن العظيم المعجز المبين، حتى الأحاديث القدسية رغم اعتراف العلماء بأن معناها لله، ومنزل من عند الله فقد فصلت عن القرآن العظيم وجردت.

وقد حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على عدم خلطها بكتاب الله بما كان يستهل به مطالعها من عبارات يشعر بها سامعيه أنه يصوغها بأسلوبه البشري.

وشتان بين أسلوب محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو من أفصح البشر، وأسلوب منزل القرآن العظيم.

لذا وجب على كل مستشهد بحديث قدسي أن يستهل العبارة بقوله: «قال رسول الله فيما يرويه عن ربه» أو: «قال الله -تعالى- فيما رواه عنه رسوله»، أو: «قال تعالى في الحديث القدسي» بهذا التقييد والتحديد.

إن التفرقة بين كلام الله -سبحانه وتعالى- وبين كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- ملحوظة مدركة بينة، وقد أكد ذلك في أحاديث كثيرة، فقال:

(إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعةً من النار)

، ومن المعروف أن بني أبيرق عمدوا إلى التضليل في قضية من قضايا السرقة، على عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فدافعوا عن السارق حتى اقتنع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ببراءته، ولام قتادة بن النعمان على اتهامه الأبرياء، فقال:

(يا قتادة: عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير تثبت وبينة)، ثم لم يلبث أن نزل قوله تعالى:

? وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللهِ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ? [النساء: 105].

وعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن بني أبيرق خانوه ولجئو إلى التضليل، فاستغفر الله مما وجهه إلى قتادة من العتاب والتوبيخ.

لقد كان النبي –صلى الله عليه السلام- مقتنعاً بأن التنزيل القرآني ليست له فيه إرادة، وليس له اختيار في ما ينزل أو ينقطع، فقد يتتابع الوحي ويحمى حتى يكثر عليه، وقد يفتر عنه في وقت أحوج ما يكون إليه.

إن الوحي ينزل على قلبه صلوات الله عليه وسلامه في أوقات مختلفة، إنه ليأوي إلى فراشه فما يكاد يغفوا إغفاءة حتى ينهض ويرفع رأسه مبتسماً، فقد أوحيت إليه سورة "الكوثر"، وإنه ليكون وادعاً في بيته وقد بقي من الليل ثلثه فتنزل عليه آية توبة في الثلاثة الذين خلفوا، قال تعالى:

? حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ? [التوبة: 118].

إن الوحي لينزل على قلب النبي -صلى الله عليه وسلم- في الليل الدامس والنهار، وفي البرد القارص أو لظى الهجير، وأثناء السفر، وفي هدأة السوق أو وطيس الحرب، وحتى في الإسراء إلى المسجد الأقصى والعروج إلى السماوات العلى.

وها هو الوحي ينقطع عن النبي وهو أشد ما يكون له شوقاً فقد فتر ثلاث سنين بعد أن نزل عليه جبريل بأوائل سورة العلق، وحزن النبي -صلى الله عليه وسلم- حزنا كما قالت السيدة عائشة:

(غدا منه مراراً كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بالذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل فقال: يا محمد أنت رسول الله حقاً، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه).

وبينا هو ماشٍ ذات يوم إذ سمع صوتاً من السماء فرفع بصره، فإذا الملك الذي جاءه بحراء، فرعب منه فرجع إلى زوجته الوفية خديجة يقول: (زملوني) فأنزل الله:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير