وتفاسير الفرق الإسلامية المختلفة ترجع في الحقيقة إلى التفسير بالرأي، وتدخل في النوع المذموم، وأصحابها لم يؤلفوها إلا لتأييد أهوائهم، أو لانتصار لمواجيدهم، ومنها تفاسير المعتزلة والمتصوفة والباطنية.
ويغلب على تفسير المعتزلة الطابع العقلي، والمذهب الكلامي، تبعاً لقاعدتهم الشهيرة: «الحسن ما حسنه العقل والقبيح ما قبحه العقل».
وخير من يمثل هذه النزعة العقلية في التفسير محمود بن عمر الملقب بجار الله المتوفى سنة 538 المعروف بالزمخشري في تفسيره الكشاف.
ويغلب على تفسير المتصوفة الشطحات التي تبعدهم عن النسق القرآني وتجعل كلامهم غامضاً وغير مفهوم، فإن كان يبحث عن نكت بلاغية فسيعود إلى الزمخشري، وإن التمس المباحث الكلامية عاد إلى الرازي، وإن أراد إعراب القرآن فعليه بالبحر المحيط لأبي حيان الأندلسي، المتوفى سنة 745 هجرية، ففيه كثير من المباحث النحوية، والمسائل المتعلقة بالقراءات.
لقد ألفت في القرن الأخير تفاسير لبعض العلماء فيما محاولة للتجديد، ولكن أغلبها قد أخفق وابتعد عن المعاني الصحيحة للقرآن العظيم.
القرآن يفسر بعضه بعضاً، عبارة يرددها المفسرون كلما وجدوا أنفسهم أما آية قرآنية واضحة، ولهم أن ينهجوا في تأويل القرآن هذا المنهج؛ لأن دلال القرآن تمتاز بالدقة والإحاطة والشمول.
لقد كانت هذه الدلالات شاملة جديرة بأن توحي للعلماء وضع مصطلحات خاصة يرمز بكل منها إلى السمة البارزة في كل فكرة يدعوا إليها القرآن العظيم وفي كل مشهد يصوره.
ومن هنا نشأت الدراسات الإسلامية، وفيها ما يسمى بمنطوق القرآن العظيم ومفهومه، وعامه وخاصه، ومطلقه، ومقيده، ومجمله، ومفصله، وعرفت هذه المصطلحات وأمثالها واستعرضت الشواهد الكثيرة الدالة عليها، وتباينت مناهج العلماء في دراستها.
فمنهم من يبحثها على أساس تشريعي وهم الأصوليون، ومنهم من ينظر إلى هذه المصطلحات من خلال الزاوية اللغوية والأدبية، ليتتبع بلذة وشغف طريقة القرآن في الأداء والتعبير.
لقد نزل القرآن العظيم بلسان عربي مبين يعبر عن العام بالألفاظ التي وضعها العرب لإفادة الشمول والاستغراق، وقد دل الاستقراء على أن ألفاظ العموم لا تخرج عن قوله تعالى:
? كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) ? [الرحمن: 26].
فلفظ ? كُلُّ ? فيها ما يدل على العموم، وفي ? هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ? [البقرة: 29]، ولفظ ? جَمِيعًا ? يدل على العموم، وفي قوله تعالى: ? ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ? [البقرة: 208]، فيها العموم في لفظ ? كَافَّةً ?.
هذا هو القرآن العظيم إنه وحي يوحى وتنزيل منزل.
لقد أقبل العلماء عليه مشغوفين بكل ما يتعلق به فأحصوا عدد آياته وحروفه وعدد ألفاظه المعجمة والمهملة وأطول كلمة فيه وأقصرها، وأكثر ما اجتمع فيه من الحروف المتحركة، واشتغلوا منه بأبحاث دون ذلك وزناً معتقدين أن لهم في كل هذا ثواباً عند الله وأجراً، ولقد بذل العلماء الجهد في تصنيف وتأليف وتبيين مجمل ما ولد من علوم في أحضان القرآن العظيم والدراسات التي دارت حول الذكر الحكيم فخدمت أغراضه وغاياته، وعبرت عن كلياته وجزئياته، وقد بذل أئمة الإسلام الجهد الضخم في تأصيل الأصول ووضع القواعد، فأنشأوا المدارس الفكرية وصنفوا الكتب العلمية، لقد نزل القرآن العظيم وفيه البيان للإنسان ليدرك حقيقته على هذه الأرض، فقد جعله الله خليفته على هذه الأرض التي يعيش فيها، فقال جل شأنه:
? وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30) ? [البقرة: 30].
وبين له من خلال القرآن العظيم الحلال والحرام والحقائق الشرعية في العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية والقوانين الدولية، وشئون السياسة والاقتصاد، وأحوال السلم والحرب، ووقائع المعارك والغزوات، ومواطن التقييد والإطلاق، وسرد له أسرار الكون وما فيها من خبر مضى وما هو آت ? إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4) ? [النجم: 4].
ـ[محمد بن جماعة]ــــــــ[14 Aug 2007, 08:44 م]ـ
رحلة القرآن العظيم (21)
¥