تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

حمل المسلمون من جزيرتهم العربية وبلاد الشام قرآنهم العظيم إلى إفريقية، وكان مع الفاتحين في قراطيسهم وقلوبهم، يلهجون به ليلاً ونهاراً، ويطربون لسماعه في كل حين، وكان دوي صوتهم به يرعب الأعداء ويشفي صدور قوم مؤمنين، ولما كان هذا القرآن عربي اللسان صوتاً وخطاً فقد حمل حروفه الفاتحون إلى كل مكان وصقع حلوا فيه.

وفي سنة خمسين للهجرة وجه الخليفة معاوية بن أبي سفيان جيشاً لإفريقية على رأسه عقبة بن نافع بن عبد قيس الفهري.

وانتصر عقبة على البربر، ودخل معه منهم من دخل في الإسلام، وعينه معاوية والياً على إفريقية، ففكر عقبة في إنشاء مدينة محصنة تكون مركزاً لعملياته الحربية وداراً للتموين والسلاح لمتابعة الفتح، وملجًأ أميناً للجند العربي من تآلب البربر، واختار لذلك مكاناً قريباً من تونس الحالية مملوءاً بالغابات وكانت مدينة القيروان.

واختط عقبة المدينة على نهج المدن المعسكرات، فاختط في وسطها المسجد الجامع، ثم دار الإمارة، ثم بيوت الجند، وبنا حولها صوراً متيناً، واستمر العمل في بنائها أربع سنوات، وكان اهتمام عقبة ببناء الجامع أكثر من بقية أحياء المدينة حتى قيل: لم يبني عقبة مدينة لها جامع بل بنى جامعاً له مدينة.

وقصد عقبة أن يكون الجامع قيرواناً، أي معسكراً وحصناً، واختار مكان قيروانه بعيداً عن شاطئ البحر ليكون المسلمون في مأمن من أسطول الروم وغارات الفرنجة التي كانت تنقض على تونس من صقلية وإيطاليا واليونان، فتحتل وتخرب مدن الساحل مثل سوسا وجربا.

وقد قال له أصحابه حين فتش عن مكان المدينة الجديدة: نحن أصحاب إبل، ولا حاجة لنا بمجاورة البحر.

وكانت الصحراء التي أنشأ فيها المدينة أشبه بصحراء جزيرة العرب، ولن يشعر الجندي العربي بالغربة فيها لما لها من مزايا البيئة الجغرافية العربية.

وبذلك أصبحت الغابة الكثيفة التي كانت مرتعاً للوحوش والزواحف، أرضاً مستوية تقوم فوقها تلك المدينة الزاهرة التي لا تزال آثارها قائمة حتى يومنا هذا.

وقد اتخذها الفاطميون في أول تأسيس دولتهم عاصمةً لهم، ثم انتقلوا إلى المهدية، فالقاهرة بعد أن أسسها لهم قائدهم "جوهر الصقلي".

ومن بعدهم اتخذها ملوك الصنهاجيين مقراً لهم، كما كانت منزلاً لأهل قريش من بني فهر وبني تميم وبني هاشم، وفيها مدافن عدد من الصحابة.

لقد كان سكان إفريقية الشمالية من البربر يعيشون على البداوة، وكان لهم بالرغم من بداوتهم كتابة تسمى "فيناج"، لم تزل مستعملة لدى الطوارق في الصحراء الجزائرية حتى الآن.

لم يمضي القرن الهجري الأول حتى كان الإسلام عزيز الجانب موطد الأركان في كل أنحاء المغرب، ودخل في الدين الجديد آلاف البربر، وشحذوا هممهم لتعلم القرآن العظيم، واستهل القرن الهجري الثاني وإذا أفواج من الدعاة والعلماء والفقهاء تفيد على أرض المغرب، فانصهر البربر في المجتمع الجديد، وتحولوا عن حروفهم ومعتقداتهم ونبذوها وراء ظهورهم، وتعلموا شريعة الإسلام، وهجروا حروفهم، وأقبلوا على حروف القرآن العظيم بخط عربي جميل، وبعشق يتناغم من الجدة في المعتقد ويتأصل مع كلام رب العالمين.

وتأسست في أواخر القرن الأول للهجرة جامعة ذائعة الصيت في القيروان، فقصدها طلاب من كل الأنحاء ووفد إليها علماء أجلاء من مدارس الكوفة والبصرة.

قال عنها المراكشي: وكانت القيروان هذه في قديم الزمان منذ الفتح إلى أن خربتها الأعراب دار العلم بالمغرب إليها ينسب أكابر علماءه وإليها كانت رحلة أهله في طلب العلم، ولئن كان التطور الحرف العربي، والخط العربي عبر ثلاثة قرون في أحضان المصحف، وكان تحوله من اليابس إلى اللين على يد الوزير أبي علي بن مقلة، فإن الليونة في الخط جاءت عبر رسائل التدوين التي خطت منذ القرن الهجري الأول وأخذت شكلها في القرن الخامس وتحولت إلى نسخ بديع.

ولئن كان ذلك قد حدث في مشرق العالم الإسلامي في حاضرة المسلمين بغداد، فإن الكتابة والخط المغربي اللين قد اشتق مباشرة من الخط الكوفي الجاف اليابس.

وكان هذا الاشتقاق في نفس الفترة الزمنية التي شاع فيها استعمال الخط اللين، المشرقي، ولم يكن لليونة المشرق أي أثر في ليونة المغرب، الذي ظل محافظاً على هيكل يبوسته حتى الآن.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير