ولقد أصاب "هوداس" فيما ذهب إليه في بحثه محاولة في الخط المغربي من أن المغاربة مع اتصالهم بالمشرق لم يستجلبوا الخط اللين؛ لأنهم توصلوا إلى تبسيط خط الكوفة، وإخضاعه لأغراض تدوين القرآن العظيم.
ولأهل المغرب اعتزاز بما توصلوا إليه من تطوير في الخط الكوفي إلى اعتبار الخطوط المشرقية أقل مستوى من خطهم المغربي الذي تواءم مع إملاء مصحف الإمام، وخضع لتطورات الشكل بالنقط، وإلى استخدام ألوان مخالفة لما في المصحف الذي كتب ببغداد.
لم يرفض المغاربة كل ما جاء إليهم من المشرق، فقد قبلوا ترتيب الحروف الهجائية مع اختلاف يسير، واستعملوا نقط الإعجام، مع نقط القاف بنقطة واحدة من الأعلى والفاء بنقطة من الأسفل.
واستعملوا الشكل لبيان الحركات الإعرابية بطريقة الخليل بن أحمد الفراهيدي، وانفردوا عن أهل المشرق بتجريد حرفي القاف والنون من النقط من الإفراد والتطرف؛ لأنهما لا يلتبسان بحروف أخرى، ولم يكتبوا أسماء السور كما عهدناه في المصاحف المشرقية بخط كوفي مورق مشجر وإنما ابتكروا له نوعاً خاصاً، أطلقوا عليه اسم "خط الثلث المولدي" من "خط الثلث المشرقي" مع استدارات تتواءم مع الخط المغربي.
وكما المشرق فقد ظلت المصاحف المغربية حتى القرن الخامس الهجري تكتب بخط كوفي يابس، أطلق عليه اسم الخط القيرواني، ونلاحظ فيه تطوراً واضحاً نحو ليونة الحرف مع استعمال اصطلاحات خاصة بالمغرب كجرة الوصل التي تثبت في المصاحف المغربية، ولو تتبعنا الخط اليابس في الكتابات المغربية في المصاحف وغيرها لملاحظة تطوره نحو الليونة المتفردة المستقلة لرأينا ذلك من خلال الوثائق التي ما زالت محفوظة في المكتبة الوطنية بتونس.
ونرى في الوثيقة هذه مثالاً لخطوط يابسة تعود لسنة أربعٍ وثلاثين وثلاثمائة، وفيها عرقات النون وأشباهها قد تقوست وخالفت أصلها اليابس في حرف السين والراء، في السطر الثاني من الوثيقة.
ولقد رسمت الألف على استقامة واحدة من دون عقفة نحو اليمين كما في الكوفي المشرقي المحقق، كما تنحدر الألف المنفصلة عن مستوى السطر فتكون زائدة كوفية، وهي من ميزات الخط المغربي الذي ما زال إلى الآن، ولعل ذلك راجع إلى رسمها من الأعلى، ولهذه الزائدة أصل في الكتابات الكوفية قبل القرن الثالث الهجري، والكتابات الأنباطية قبل ذلك.
وفي المكتبة الوطنية بتونس أيضاً أوراق من مصاحف عثر عليها في مسجد القيروان، تمثل بداية تحوير اليبوسة إلى الليونة، وفي هذه الوثيقة المكتوبة على الرق نقرأ: ? وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135) ? [طه: 134، 135].
? اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ ... ? [الأنبياء: 1: 2].
في هذه الوثيقة المكتوبة على الرق نشاهد بوضوح عراقات النون والياء وأشباههما بأشكال دائرية إلا أن الخطاط لم ينسى أصلهما الجاف، فاستعملهما عند الاضطرار لضيق في آخر السطر، ومثالهما في كلمتي "متربص" "السوي" من آخر السطر الأول والثاني.
أما اللام المتطرفة فلم يقع بها تغيير.
واستعمل هنا الشكل أبا الأسود الدؤلي ونقطه، فالنقطة الحمراء فوق الحرف للفتحة، وتحته للكسرة، والمتراكبتان للضم، والنقط الأخضر للهمزة، ولا وجود للإعجام إلا في حرف الياء من السطر الأخير "يلعبون" "لاهية".
كما تفصل الآيات دوائر فيما بينها، ويبدوا أنهم أجازوا نقط التاء والياء كما رواه الداني فقال: كان القرآن مجرداً في المصاحف فأول ما أحدثوا فيه: النقط على الياء والتاء، وقالوا: لا بأس به هو نور له، ثم أحدثوا فيها نقطاً عند منتهى الآي، ثم أحدثوا الفواتح والخواتم.
ونلاحظ في هذا المصحف أيضاً مخالفته للرسم العثماني الذي حافظ عليه المغاربة في كل عهودهم، وذلك في كلمتي "أصحاب" و"صراط".
¥