وجاء في تاريخ الموحدين لدوزي أنه كان فقط في الروض الشرقي من قرطبة مائة وسبعون امرأة لنسخ المصاحف، ومنهن من يتمتعن بالخط الجميل، ويحق أن يحملن لقب ميفنة.
لقد كان المغرب في النصف الثاني من القرن السادس الهجري تحت حكم الموحدين، بعد انقراض دولة المرابطين بقتل آخر ملوكهم "تاشفين بن علي" سنة 539 هجرية، والموافق لسنة 1145 ميلادية.
ويعد القرن الثاني عشر الميلادي عصر إمبراطورية الموحدين بلا جدال، أكبر إمبراطورية شهدها غرب البحر الأبيض المتوسط.
نشأت دولة الموحدين على يد محمد بن تومرت الملقب بالمهدي، ودعى إلى القضاء على دولة المرابطين، ولما توفي سنة 524 هجرية بايع أصحابه تلميذه عبد المؤمن بن علي الذي استولى على مراكش، وفتح بلاد إفريقية ومد نفوذه إلى برقة، وخرج للجهاد في بلاد الأندلس، وفي عهده أمر بإخراج المصحف الإمام من قرطبة سنة 552 هجرية، وهو أحد المصاحف الأربعة التي بعث بها سيدنا عثمان بن عفان -رضي الله عنه- إلى الأمصار.
وقد اعتنى به الموحدون كل الاعتناء، وأقاموا له كل زينة من تذهيب وكسوة، وقد تحدثنا عنه مفصلاً في حلقات سابقة.
نجح عبد المؤمن خليفة بن تومارت في أقل من ثلاثين سنة في توحيد المغرب وغزو الأندلس والسيطرة على بني هلال في الجزائر، وإعادة السلام إلى تونس، فأصبح يدعى له على المنابر من طرابلس حتى قشتالة، وسرعان ما وضع نظاماً إدارياً حازماً استمده من النظام الأندلسي.
ونشر الحضارة الإسلامية الأندلسية في شمال إفريقية وشجع خطاطي المصاحف وقدم لهم المكافآت المجزية، وشاع في عصره البنيان متألقا بطرازه الإسلامي واضحاً في هيئته ونمطه، ومثال ذلك مئذنة جامع القطبية، ومساجد تازة وتمال.
ووصل خلفاؤه صنعه، فأكمل أبو يعقوب المنصور قصرة مراكش وأنشأ الحصن الموحدي، وشرع في بناء مئذنة ومسجد حسان بالرباط، وخص الأندلس بأعمال بلغت حداً كبيراً من العظمة، مثل الخرالدا وسور القصر.
تولى الخلافة يوسف من سنة 558 هجرية، فسار للأندلس وقاتل الفرنجة، وتوفي فيها متأثراً بجراحه سنة 580 هجرية، وكان عالماً شديد الاحتفال بالعلماء ففي عهده ظهر ابن رشد الشهير، وجاء من بعده يعقوب وسار للأندلس مرتين انتصر فيهما في موقعة الأرك سنة 559 هجرية.
لم يكن الأمراء والموحدون من بعد يعقوب بمثل قوة آبائهم وشجاعتهم وجهادهم، فضعفوا وحل محلهم المرينيون في مراكش، ودولة بني عبد الواد في الجزائر، وبني حفص في تونس، ويمتاز عهد الموحدين في الأندلس منذ عبد المؤمن بشيوع كتابة المصاحف الشريفة، ونبوغ آل غطوس في فالنسيا كما شاهدنا ذلك في حلقات ماضية.
أفل في المغرب العربي قمر الموحدين، وسطعت شمس المرينيين، لتصور اللحظات الأخيرة للتجمع المغربي الأندلسي.
والمرينيون من زناتا، وينتسبون للأمير عبد الحق بن الأمير محيو، وهو أمير ابن أمير إلى جد مرين، دخل المغرب من الصحراء من ذا بإفريقية موضع إمارته عام 610، وانضمت إليه قبائل البربر مطيعين له، فعظم سلطانه واتسع ملكه، ودامت إمارته 22 سنة، وقتل سنة 614 هجرية.
وفي عهد حفيده علي تمت معاهدة الصلح مع الأسبان، اشترط فيها إعادة المخطوطات من المصاحف الثمينة والكتب إلى قرطبة وإشبيلية، ولما تسلمها حبسها على المدرسة التي أنشأها في فاس، واعتنى بتأسيس المدارس حول جامعة القرويين، واشتهر بنسخ ثلاث مصاحف أهداها للبيت الحرام، ومسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-، والمسجد الأقصى.
ويذكر المقري نقلا عن ابن مرزوق أنه أهدى نسخة من المصحف الشريف بخطه للملك الناصر قلاوون.
لم يكن المغرب خلال هذه الفترة يسير على ما جاء به المشارقة من رموز في المصحف الشريف، وإنما كانت لهم شخصية مستقلة آثروا بها التميز في كتابة القرآن العظيم، وممن اشتهر منهم في قرطبة وكانت من أكثر البلاد التي استنسخ فيها القرآن العظيم محمد بن إسماعيل الذي يكتب المصحف في أسبوعين، ومنهم خلف بن سليمان وكان متخصصاً في نقط المصاحف لإتقانه علم القراءات.
وهذا يدل على أن نساخ المصاحف كانوا ينقسمون إلى فئات، فمنهم من يكتب الحرف، ويأتي من بعده من ينقط عن علم ودراية.
¥