ونقرأ في الصفحة الأولى من نهاية سورة التحريم من قوله تعالى: ? وَمَرْيَمَ ابْنتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12) ? [التحريم: 12]، ثم نقرأ اسم السورة التي تليها وهي سورة "الملك" ثلاثون آية، ثم بسم الله الرحمن الرحيم، وفي الصفحة الثانية نقرأ من نهاية سورة القلم من قوله تعالى: ? وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (52) ? [القلم: 51، 52].
ثم نشاهده شكلاً جمالياً زخرفياً وقد قسم إلى جدولين، في الجدول الأول اسم السورة "سورة الحاقة"، وفي الوسط كلمة "خمسون" وفي الجدول الثاني "وآية مكية" والسورة هي اثنتان وخمسون آية مكية على رواية حفص، ثم نقرأ من سورة الحاقة، بسم الله الرحمن الرحيم ? الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) ? [الحاقة: 1: 3].
وننتقل إلى الصفحة الثالثة ونشاهد فيها غنى الزخرفة في رأس السورة، وهذا يدل على أن القرآن هذا لو وجد لرأينا فيه غنى في الزخرفة الإسلامية؛ لأن المذهب استخدم أشكالاً لكل سورة يختلف فيها الاسم ضمن تكوينات جديدة ساحرة مذهبة.
كما نلاحظ المرصعات التي على حواشي المصحف، فاستخدم المذهب أيضاً فواصل مروحية بين الآيات، مستمدة من مراوح النخل، وفيها أرقام الآيات على حساب الجُمَّل.
ونقرأ في رأس السورة اسم سورة "الإنسان" ثلاثون، ثم ننتقل إلى الجدول الثاني الذي رسمه على شكل مثمن دائري وفيه وآية مكية وبذلك يكون عدد الآيات لهذه السورة إحدى وثلاثون.
ونقرأ في هذه الوثيقة بسم الله الرحمن الرحيم: ? هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ ... ? [الإنسان: 1، 2] لقد كتبت هذه الصفحات من هذا المصحف النادر بمداد لون بني قاتم، كما زاوج في شكله بين طريقتين ومنهجين حين قرن أسلوب أبي الأسود بأسلوب الفراهيدي، ونقط الكلمات باللون الأحمر، ووضع الشدات والسكون باللون الأزرق، صفحات من قرآننا العظيم تحدثت عنها القرون، وحملتها الصدور عبر ألف وأربعمائة عام.
ظهر في وقت متأخر مصطلح الرسم المصحفي والرسم العثماني في المؤلفات التي اهتمت بموضوع خط المصحف وصار مصطلح الرسم يهتم بكيفية كتابة الكلمات في المصحف، ولم يحدث لكتاب في تاريخ البشرية أن نقل عناية التامة والاهتمام من حيث كتابته ورسم حروفه ومن حيث تلاوته وتحقيق قراءته ومعرفة أحكامه وبيان معانيه كالقرآن العظيم.
فقد روى علماء الرسم وسجلوا في كتبهم وصف هجاء كل كلمة وردت في المصحف، خاصة تلك التي تميزت برسم معين، إذ ما إن وصلت المصاحف التي كتبت في المدينة في خلافة الخليفة الراشد سيدنا عثمان بن عفان -رضي الله عنه- إلى الأمصار الإسلامية حتى سارع المسلمون إلى نسخ المصاحف منها حرفاً بحرف، وكلمة بكلمة، وإقامة مصاحفهم بعرضها عليها.
وكما اشتهر أئمة بقراءة القرآن العظيم وإقراءه في الأمصار كذلك اشتهر أئمة بضبط اسمه والكتابة على ما جاء في المصحف الإمام الذي وجه إليهم.
وبذلك قامت المصاحف المنسوخة من الأمهات مقام الأصول، وما إن بدأ عصر التدوين في القرن الثاني الهجري حتى سارع أئمة الضبط في رسم كلمات المصحف إلى تدوين هذا العلم، وتسجيل ذلك في كتب أصبحت الأساس لسور الكلمات في المصاحف، ومرجعاً لمن أراد أن يخط مصحفاً بالإضافة إلى ما تبقى من المصاحف المنسوخة.
وظهر علماء في مختلف الأمصار يعملون في ميدان علم رسم المصحف ويقارنون بين المصاحف المكية والمدنية، ومصاحف أهل الشام والعراق.
وظهر في كل مصر من الأمصار إمام روى ما جاء في مصحف بلده، وأئمة القراءات كانوا يروون كيفية رسم الكلمات إلى جانب روايتهم للقراءة، وكانت مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- داراً للقرآن وقراءاته ورسمه، فكان ممن روي عنهم الرسم من أهل المدينة عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، المتوفى سنة 117 هجرية.
¥