تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومما هو جدير بالاعتبار أن هذه الوثبة لم تكن من صنع السياسيين ولا العلماء الفطاحل , بل كانت بين أناس يتسمون بالبساطة ورجال لا يزالون في بداوتهم. غير أن أنظارهم توجهت في تلك اللحظات إلى ما وراء الأفق القريب , فتجلت لهم آيات في أنفسهم وتراءت لهم أنوارها في الآفاق ".

نعم إنه لمن الغريب أن يتحول هؤلاء البسطاء ذوو الحياة الراكدة , عندما مستهم شرارة الروح , إلى دعاة إسلاميين تتمثل فيهم خلاصة الحضارة الجديدة وأن يدفعوا بروحها وثبة واحدة , إلى تلك القمة الخلقية الرفيعة التي انتشرت منها حياة فكرية واسعة متجددة نقلت من علوم الأولين ما نقلت ,وأدخلت علوما جديدة حتى إذا ما بلغت درجة معينة انحدرت القيم الفكرية التي أنتجتها دمشق وبغداد و قرطبة وسمرقند.

و من هنا ندرك سر دعوة القرآن الكريم المؤمنين إلى التأمل فيما مضى من سير الأمم، و ذلك حتى يدركوا كيف تتركب الكتلة المخصبة من الإنسان و التراب و الوقت.

ولا شك أن المرحلة الأولى من مراحل الحضارة الإسلامية التي ابتدأت من غار حراء إلى صفين – وهي المرحلة الرئيسية التي تركبت فيها عناصره الجوهرية – إنما كانت دينية بحتة تسودها الروح.

ففي هذه الحقبة ظلت روح المؤمن هي العامل النفسي الرئيسي من ليلة حراء إلى أن وصلت إلى القمة الروحية للحضارة الإسلامية وهو ما يوافق واقعة صفين عام 38هـ.

ولست أدري لماذا لم يتنبه المؤرخون إلى هذه الواقعة التي حولت مجرى التاريخ الإسلامي إذ أخرجت الحضارة الإسلامية إلى طور القيصرية الذي يسوده عامل العقل , وتزينه الأبهة والعظمة في الوقت الذي بدأت تظهر فيه بوادر الفتور الدالة على أفول الروح , فإن مؤرخينا لم يروا في تلك الكارثة إلا ظاهرة ثانوية وهي نشوء التشيع في العالم الإسلامي مع تداولهم لحديث ألمح فيه الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى تلك الكارثة وقد ورد فيه ما معناه: أن الخلافة تكون بعده أربعين عاما ثم تكون ملكا عضوضا.ولا شأن لنا هنا بتحقيق مدى صحته من جهة السند أو الرواية.الأمر الذي يهمنا هو أنه مما لا شك فيه أن الحضارة الإسلامية قد خرجت من عمق النفوس كقوة دافعة إلى سطح الأرض تنتشر أفقيا من شاطئ الأطلنطي إلى حدود الصين.

وهكذا وجدنا الحضارة الإسلامية تتوسع وتنتشر فوق الأرض , تتغلب أولا على جاذبيتها بما تبقى لديها من مخزون روحي , حتى إذا ما وهنت فيها قوى الروح وجدناها تخلد إلى الأرض شيئا فشيئا ...

أما الشرط الثاني وهو إمكانية تطبيق المبدأ القرآني الآن؟ فيقول بن نبي "إننا لكي نتوصل إلى التركيب الضروري كحل للمشكلة الإسلامية أعني مزج الإنسان والتراب و الوقت , يجب أن يتوفر لدينا مؤثر الدين الذي يغير النفس الإسلامية أو كما يقول كيسرلنج:" يمنح النفس مبدأ الشعور " فهل يمكن تحقيق هذا الشرط في الحالة الراهنة للشعوب الإسلامية؟

إن التردد في الإجابة عن هذا السؤال بالإيجاب لا يدل إلا على جهل بالإسلام ,وبصفة عامة بتأثير الدين في الكون ,فإن قوة التركيب لعناصر الحضارة خالدة في الدين وليست ميزة خاصة بوقت ظهوره في التاريخ , فجوهر الدين مؤثر صالح في كل زمان ومكان.

وتسجيله في النفس وهو ما يهم التاريخ – كما سبق في حديثنا عن الحضارة المسيحية التي تركبت بعد ألف عام من ظهور المسيحية – يمكن أن يتجدد ويستمر ما لم يخالف الناس شروطه وقوانينه , وهو ما ترمز إليه الآية الكريمة: (فليحذر الدين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) * سورة النور: 63* ومن هذه الوجهة نستطيع أن نقول: أن الدين وحده هو الذي يمنح الإنسان هذه القوة فقد أمد بها أولئك الحفاة العراة من بدو الصحراء ,الذين اتبعوا هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

وهكذا فإن مالك بن نبي رحمه الله يقترح منهجاً اجتماعياً لفهم نصوص القرآن الكريم فهماً يحرك النفوس الهامدة ويسير بها قدماً نحو التغيير نحو الأفضل, فالفهم السليم في نظره هو الفهم الذي يستلهم الوقائع الاجتماعية والتاريخية التي تقع تحت سمع الناس وأبصارهم. (مقال الأستاذ محمد الدراجي المذكور اعلاه)

ــــــــــــ

(1) (الظاهرة القرآنية)، مدخل محمود محمد شاكر، ط 3، 1968 – ص 10.

(2) - مالك بن نبي: الطالب ص:220

(3) - عبد اللطيف عبادة: ومضات مشرقة من فكر بن نبي ص:75

(4) - مالك بن نبي:الظاهرة القرآنية ص:53. وهكذا دعا بن نبي إلى تعديل منهج التفسير ولم يتجرأ على التشكيك في القرآن أو وضعه موضع الشك ,كما زعم محمد أركون [مفكر جزائري الأصل أستاذ بجامعة باريس علماني الفكر] في ملتقى بن نبي الذي نظمته جامعة وهران وكان عنوانه:"نقد ذاتي ونقد للفكر الإسلامي عند ابن نبي "-ولعه بذلك أراد أن يبرر موقفه وأن يقول للناس لست بدعاً في الأمر , فقد فعل مثل الذي فعلته مفكر إسلامي كبير- وصاحبنا الذي اتهم بن نبي ظلما وزوراً هو الذي تجرأ حقاً للتشكيك في القرآن إذ يقول في مقدمة ترجمة القرآن للفرنسية – كز جريسكي (إن القرآن يبدو بالنسبة لعقل حديث اعتاد الاستدلال العقلي والإثارة والوصف والقصة حسب خطة منظمة تنظيماً محكماً. يبدوا القرآن منفراً بما فيه من عرض مشوش واستعمال للكلام غير مألوف ومن كثرة الإشارات والتعليمات الخرافية والتاريخية والجغرافية والدينية وما فيه من تكرار ومن بعد عن المنطق).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير