تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لقد اعترتني الدهشة مما قرأت! إذ كيف يعدّ الكاتب استعمال كلمة دون أخرى "لأنها الأقرب للغة الفصحى باعتبارها معربة" طبقية ثقافية؟ وليس حرصا من الصحف على الصفاء والنقاء اللغويين اللذين يليقان باللغة العربية وبالصحف التي تكتب بها؟ وبغض النظر عن كلمة تلفاز أو تليفزيون أو ما شابههما، فإني أتساءل: ماذا يبقى من اللغة إن نحن تسامحنا في أساليبها ومفرداتها لتكون في مستوى لغة الشارع؟ وهل ينبغي للصحافة أن تنزل فيما يكتب فيها إلى لغة الشارع؟ أي إلى اللغة المتداولة بين أهله؟ وهل يفترض أن تنزل الصحيفة لغة ومحتوىً لمستوى رجل الشارع أم ترقى بهما ليرتفع هو إليها؟

إنه مما لا يعيب اللغة ولا أهلها ولا كتابها ولا مبدعوها ولا أوعية ثقافتها المختلفة أن ترقى بنفسها وأن تنأى بأساليبها عن الابتذال اللغوي، أما الطبقية الثقافية فهي موجودة ولا يمكن محوها، ولعل القرآن الكريم أول من كرّس هذه الطبقية بآيات عديدة منها (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) أي لا يستويان كما لا يستوي العالم والجاهل كما جاء في تفسير الجلالين، وذلك إعلاءً لشأن العلماء وأهل العلم والاختصاص، والمفهوم عقلا ولغة ينطبق على كل من تعلم علما وتمرس فيه وصار بواسطته حجة، وقوله تعالى (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) ومفهوم أهل الذكر ينصرف عقلا ولغة إلى كل من تخصص في علم من العلوم وفن من الفنون ومهارة من المهارات، وقوله (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) وهذا في الجنة، وأما في الدنيا فلولا العلم والتخصص أو الطبقية الثقافية كما يسميها الكاتب لأصبح أساتذة الجامعة في مكان آخر غير الجامعة، ولأصبح المهندسون باعة في المجمعات التجارية وقس على ذلك. فهل نلغي الطبقية الثقافية لتنتقل الجامعات إلى سوق الخضار مثلا، وينتقل الحلاقون إلى المستشفيات بدلا من الأطباء؟ ليس قولي هذا تقليلا من شأن المهن وأصحابها، بل لأنّ كلا مهيأ لما خُلق له.

إن الإصرار على الصحة اللغوية سواء أكنت نحوية أم إملائية أم معجمية أم أسلوبية، ليست نقصا، بل هي سعي إلى الرقي بلغة الصحافة التي يستفزّ الكثيرين ما يشوبها من أخطاء في كل المستويات اللغوية.

3 - يقول الكاتب (ما يعرفه طالب في المرحة الثانوية اليوم أكثر وأنقى مما كان يعرفه الرازي وابن سينا وابن تيمية)!!!

وهذا القول فيه كثير من الاجتراء على علماء كان لهم من سعة الأفق والنبوغ والتفوق والصبر والفضل على البشرية ما لا يمكن وصفه، فكثير منهم ألف من الكتب ما يعجز فريق ممن يتخصص اليوم في الحقل نفسه الذي برع فيه هؤلاء، عن القيام بكل ما قام به أحدهم دون الاستعانة بتكنولوجيا العصر. فأبو بكر الرازي ألف عددا كبيرا من الكتب على رأسها كتاب الحاوي في خمسة وعشرين مجلدا في كل فروع الطب، من وصف للأمراض وأعراضها وعلاجها وأدويتها وطبيعة تلك الأدوية وتركيبها وخواصها وأعراضها الجانبية، بل والأدوات الطبية التي يستعين بها الطبيب في علاج المرضى، كما وضع في جزئه الأخير معجما طبيا شاملا لكل أسماء الأمراض والأدوية المعروفة في عصره وما سبقه، وحنين بن إسحاق وضع مؤلفا كبيرا في طب العيون وتشريحها، وابن سينا كان طبيبا وجراحا وفيلسوفا ومترجما وجيولوجيا ونباتيا عالما بالأدوية وخصائصها الغذائية والعلاجية، وضع مؤلفه الكبير القانون في الطب في عدة مجلدات كبيرة، وابن رشد كان طبيبا وفيلسوفا ومترجما ولغويا وقد دشن بكتابه الكليات مرحلة جديدة في تاريخ التفكير العلمي في الطب، وهذا التنوع في العطاء والتخصص يحسب لهم لا عليهم، فكيف يفوقهم طالب الثانوية اليوم لمجرد أنه يتعامل مع برامج الكمبيوتر وغيرها من التقنيات التي لو أتيح لذلك الرعيل الأول واحد بالمائة منها لأتوا بالعجب.

إن المسألة ليست في التكنولوجيا بل في العقول التي تتعامل معها، فالتقنية إذا لم يصاحبها وعي وسعة إدراك لدورها في الفهم والعلم وتطوير الذات، تصبح عبئا على صاحبها بل على المجتمع والوطن بأسره، ولا أظن أني بحاجة لأذكر كيف تستخدم تقنية الهواتف المصورة ومواقع الانترنت وغيرها من قبل بعض المرضى والمنحرفين فكريا ونفسيا للتعبير عن أمراضهم والتنفيس عن أحقادهم وعقدهم وممارسة شذوذهم وانحرافهم كما يحلو لهم، مستغلين تلك التقنيات التي لو علم مخترعوها نوعية أولئك المستخدمين لأحجموا عن اختراعها. التقنية في أيدي هؤلاء كالسلاح في أيدي المجانين.

إن العرب في هذا العصر معنيون بنقل ألفاظ الحضارة الأجنبية إلى لغتهم ترجمة وتعريبا، لتكون أداة طيعة في التعبير عن دقائق العلوم وآفاق التقنيات، كي تعمّ الفائدة ويزداد ثراء اللغة، ويكون ذلك منطلقا لدخول مضمار التقدم، بتعريب الحياة بنواحيها المختلفة، لابد من ترقية العربية الصحيحة وإحلالها محل اللهجات والكلمات الأجنبية الهجينة، في النطق والكتابة والتفكير والتعليم والمعاملات.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير