لقد غالى دي سوسير كثيراً عندما قرر أنَّ الفردَ لا يستطيعُ التَّغيير أو التَّبدِيلَ في اللُّغَةِ , وأنَّ الجماعةَ هي التي تفعلُ ذلك. والواقعُ أنَّ الفردَ هو مصدرُ التَّغييرِ والتَّبديلِ , فثمَّةَ رائدٌ دائماً في ذلك التَّغييرِ، ويبدأُ أيُّ استخدامٍ لغويٍّ غيرِ معروفٍ ثمَّ يُعمَّمُ، وتصرُّفُ الفردِ في الكلامِ مشروطٌ بألاَّ يتجاوزَ حُدودَ الإفهامِ الذي هو عامٌّ ومشترك بين أفرادِ الجماعة، فالكلامُ (الفرديُّ) مرتبِطٌ بعنصرٍ اجتماعيٍّ هو الإفهامُ.
أمَّا من حيثُ الدِّراسةُ فإنَّ دي سوسير يُفرِّقُ بينَ ثلاثةِ مصطلحاتٍ هي:
1 - الكلام.
2 - اللًّغة.
3 - اللِّسان.
فالكلامُ هو الأحداثُ المنطوقةُ فِعلاً مِن متكلِّمٍ فردٍ ولها واقعٌ مادِّيٌّ مباشرٌ، ويمكنُ أن يُدرَكَ إدراكاً مباشراً، وبالتَّالي فالكلامُ حقيقةٌ فرديَّةٌ وليسَ اجتماعيَّاً.
أمَّا اللغةُ فكلامٌ ينقصُهُ التَّكلُّمُ، أو هي كلامٌ كامِنٌ بالقوَّةِ، فهي مجموعُ العاداتِ اللغويَّةِ التي يتمُّ بها التَّواصُلُ، وهي مُلكٌ للفردِ والمجتمعِ في آنٍ واحدٍ. لذا فاللغةُ ليست واقعةً اجتماعيَّةً بحتةً، لأنَّ الفردَ يتدخَّلُ فيها. ثمَّ إنَّها تقَعُ على تخومِ عدَّةِ ميادينَ فيزيائيَّةٍ وفيزيولجيَّةٍ ونفسيَّةٍ. وتتحقَّقُ بأشكالٍ مختلفةٍ ولا يمكنُ دراستُها دراسةً علميَّةً.
أمَّا اللسانُ فهو اللغةُ المعنيَّةُ الصَّالحةُ للدِّراسةِ. إنَّهُ مجموعةٌ من الصُّورِ اللَّفظِيَّةِ المختزَنَةِ في العقلِ الجماعيِّ. والفردُ ليسَ حُرَّاً في اختيارِ مفرداتِهِ وتنظيمِ قواعِدِهِ؛ لأنَّهُ يرثُ ذلك ويكتسبه من الجماعةِ اللغويَّةِ. واللسانُ هو الذي يمدُّ الكلامَ بالقواعدِ التي تضبطها في وجودِهِ المادِّيِّ.
نقد نظرية دي سوسير
يتصدَّى أوتو يسبرسن اللغوي الدانمركي لآراء دي سوسير , ويرى أن الكلامَ واللِّسَانَ جانبانِ لِشَيءٍ واحدٍ. فالكلامُ، وإن كان نشاطاً فردياً، إلاَّ أنه يرتبط بعنصرٍ اجتماعيٍّ هو الإفهامُ. ومفرداتُ أيِّ لسانٍ هي جميع ما ينطق به أفراد المجتمع , والعلاقةُ بينَ اللِّسَانِ والكلامِ كعَلاقَةِ النَّوعِ بالفردِ.
أي: فرد + فرد + فرد + فرد = جماعة لغوية.
كلام فردي + كلام فردي + كلام فردي + = لسان.
ويأخذ يسبرسن بتقسيمٍ ثُلاثِيٍّ آخرَ , فيقدِّمُ ثلاثةَ مُصطَلَحَاتٍ بَدِيلةٍ لمصطلحاتِ دي سوسير السَّابِقَةِ (الكلام واللغة واللسان) هي:
1 - الحَدَثُ اللُّغَوِيُّ: وهو نطقُ فردٍ معين بعبارة ٍ معينة مرةً واحدة , وهو حالةٌ فردةٌ , ولا يتكرَّرُ ذاتُهُ في موقِفَين مُختَلِفَين.
2 - لغة الفرد: وهي القِيَمُ اللُّغَوِيَّةُ الموجُودَةُ لدى فردٍ ما.
3 - لغة الجماعة: وهي القِيَمُ اللُّغَوِيَّةُ الموجودَةُ لدى أفرادِ جماعةٍ لغويَّةٍ ما.
وبالتَّالي يرى يسبرسن أن الواقِعَ اللغويَّ يُشَكِّل أحداثاً لغويَّةً , أمَّا العلاقاتُ والقواعِدُ فهي لغةٌ , وهذه اللُّغَةُ إمَّا أن تكون فردِيَّةً أو جَمَاعِيَّةً.
كما يرى فيرث أنَّ اللُّغَةَ تُدرَس باعتبارها جزءاً من عمليَّةٍ اجتماعيَّةٍ , ولا يرى للِّسانِ وُجُودَاً ذهنِيَّاً مُختَلِفَاً عن الكلام الفعليِّ الفردِيِّ. فالفردُ، وإن كانت له شخصيتُهُ المستقلَّةُ المتميِّزَةُ مِن غيرها، إلاَّ أنها تشترِكُ معها في أمورٍ كَثِيرَةٍ.
لقد كانت المفاهيمُ والأصولُ التي وَرَدَت عند دي سوسير معروفةً ومتداولةً في زَمَانِه , فقد نشر اللغويُّ الرُّوسيُّ بودوان دي كورتيني بحثاً عن الفُونِيم عام 1893 وهو صاحب هذا المصطلح.
ويرى بعضُ اللُّغَويين أنَّ دي كورتيني هو الأبُ الحقيقِيُّ للِّسانيَّاتِ البُنيَويَّةِ , وهو الذي أرسى دعائم التَّحليلِ الفونولوجي في مدرسة كازان الرُّوسيَّةِ , وقد استمَدَّ منها دي سوسير أُصُولَ التَّحلِيلِ الفونولوجي. كما أنَّ دي سوسير مَدينٌ لعالِم الاجتماعِ الفرنسي إميل دوركهايم , ولِعِلم النَّفسِ الجماعي عند تارد , كما أنه مَدينٌ لتعاليم الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو في كتابِه (العِقدُ الاجتماعي).
المصطلحات والثُّنائيَّات الواردة في نظريَّةِ دي سوسير
إنَّ المصطلحاتِ والثُّنَائيَّاتِ التي وردت عند دي سوسير هي نفسُها التي وردت عند دي كورتيني , من ذلك:
1 - الفونيم.
2 - التَّمييز بين اللُّغةِ بوصفِها نِظَامَاً , وبينَ اللُّغَةِ بوصفِها مَسَارَاً مُتَكَرِّرَاً (الصلة بين اللسان والكلام عند سوسير).
3 - التَّمييز بين ديناميَّةِ (حركية) اللُّغَةِ , وبين واقِعِها الحاليِّ (الدِّرَاسَة الوصفيَّةُ والدِّرَاسَةُ التَّاريخيَّةُ عند سوسير).
4 - التَّمييزُ بين اللُّغة المحكيَّةِ (الكلام) واللُّغة المكتوبَةِ.
5 - دراسةُ الألسُنِيَّةِ دِرَاسَةً عِلمِيَّةً.
6 - دراسةُ اللُّغَةِ بوصفِهَا نِظَامَاً.
7 - السِّمَةُ الرَّمزِيَّةُ لِلُّغةِ.
انتهت المحاضرة صدام الفايز
¥