وابن قتيبة يتبع الصنيع نفسه إذ يقول: " وللعرب مجازات في الكلام، ومعناها: طرق القول ومآخذه ففيها: الاستعارة، والتمثيل، والقلب، التقديم والتأخير". () وقد كان ابن قتيبة البلاغى الوحيد الذى حرص على ملء صفحات كتابه بالكثير من الشواهد الشعرية للتدليل على وجود ظاهرة " التقديم والتأخير" في كلام العرب وأشعارهم مثلما نجد في كتابه. ()
أما الباقلانى فقد برهن على معرفة العرب لهذا الأسلوب تطبيقيا وذلك من خلال المقارنات التى عقدها للتدليل على إعجاز النص القرآنى في مقابل النص البشرى ممثلا في معلقة امرئ القيس، وفي تحليله الجيد لأبيات من هذه المعلقة. ()
والشريف الرضى في كتابه لم يعنيه التأصيل للظاهرة بقدر ما اعتنى بالتطبيق العملى لها على الآيات القرآنية، متخذا من ذلك دليلا على الإعجاز البلاغى. كذلك كان فعل القاضى عبد الجبار في كتابه "المغنى " إذ لم يكلف نفسه عناء التطبيق على الآيات القرآنية، ولم ترد سوى إشارة وحيدة للمبحث في كتابه، ولعل مسوغه في ذلك كونه صاحب مذهب، ورئيس نحلة فقد كان جل اهتمامه التأصيل لفكره.
والكرمانى جعل نصب عينه التطبيق على الآى القرآنى فقط، وإبراز ما فيها من تداخلات واختلالات تركيبية " بالتقديم والتأخير" ولم يشغل ذهنه بالتأصيل للمبحث ولا التدليل على وجوده عند العرب. والحق أن تحليل الكرمانى للآيات الوارد فيها " التقديم والتأخير" يعد من أروع التحليلات التى وردت حول هذه الآيات.
وابن أبى الإصبع المصري يجعل جل اهتمامه في كتابه استقصاء ألوان البديع القرآنى، ولم يتطرق إطلاقا إلى ذكر استخدامات العرب "للتقديم والتأخير" ولا توظيفهم هذا الأسلوب.
ولعل من الملاحظ كون البلاغيين – ابتداءا من القرن الرابع الهجرى – نفضوا أيديهم من التأصيل للظاهرة في كلام العرب وأشعارهم، وربما كان مسوغهم في ذلك تفرد الأوائل بهذا الفعل على نحو ما فعل أبو عبيدة والأخفش وابن قتيبة والباقلانى، فاكتفى المتأخرون منهم بالجانب التطبيقى للمبحث، واعتمدوا أنه لا حاجة إلى إعادة الكلام وتكراره.
وعلى هذا الأساس انطلق البلاغيون المتأخرون في رحاب التطبيق، فجالوا وصالوا في رحاب النص القرآنى، وغاصوا على درره وكوامنه، وعكفوا على آياته وكلماته بالتحليل والدرس والفحص ليقفوا على بعض ما فيها من إعجاز، وقد تأتى لهم ذلك إلى حد كبير.
ثالثاً: فيما يتعلق بتنبه البلاغيين لأسرار هذه الظاهرة، ومحاولة استكناه كوامنها. ولعل الشريف الرضى هو البلاغى الوحيد الذى أوضح جلياً في مقدمة كتابه " مجازات القرآن " أنه إنما قصد بالتأليف هذا الموضوع ليقف على أسرار الإعجاز القرآنى، ورسم خطة كتابه قائلاً: " هذا كتاب أذكر فيه الآيات المتشابهات التى تكررت في القرآن، وألفاظها متفقة، ولكن وقع في بعضها زيادة أو نقصان أو تقديم أو تأخير .... وأبين السبب في تكرارها، والفائدة في إعادتها، وما الموجب للزيادة والنقصان، والتقديم والتأخير والإبدال " ()
وعلى هذا النهج سار في كتابه محللاً منتبهاً للظاهرة، وواقفاً بالدرس والتحليل على أسرارها، وبيان أثرها في إثراء المعانى القرآنية.
رابعاً: في تنبه البلاغيين لأنواع "التقديم والتأخير" في ثنايا مؤلفاتهم التى أفردوها للإعجاز القرآنى. فالملاحظ أن البلاغيين تنبهوا لنوعي "التقديم والتأخير" رغم عدم التعيين المصطلحي لهذين النوعين.
يقول أبو عبيدة:" ومن مجاز المقدم والمؤخر قال (فَإِذاَ أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) () أراد: ربت واهتزت " (). فهو في هذا النص يقف على "التقديم والتأخير" المعنوى وأن كان لا يعينه، ويخرج الآية على أنها من باب تقدم السبب على المسبب، فالماء ينزل أولاً فينبت الزرع ويربت أى: ينمو، ثم يهتز عند اكتمال النمو دلالة على النضج. فقد تنبه أبو عبيدة لهذه اللمحة وجعل "التقديم والتأخير" هنا من المجاز. بينما في المواضع الأخرى التى ذكر فيها "التقديم والتأخير" في كتابه يكاد ينطق صراحة بأن هذه المواضع من "التقديم والتأخير" الرتبى، لكنه يكتفي بفعل الإشارة دون التعيين يقول في تعليقه على قوله تعالى: (فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ): " مقدم ومؤخر، مجازه: كذبوا فريقاً، و (فريقاً يقتلون) مجازه يقتلون
¥