تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فريقا " (). فهو هنا يشير إلى حق الترتيب الأصلى للجملة الفعلية (الفعل + الفاعل + المفعول) وقد جاءت الآية الكريمة باختلال في هذا الترتيب، فقدم المفعول به (فريقا) على الفعل والفاعل. وأبو عبيدة إذ انتبه إلى تلك اللمحة فإنه يجعلها من المجاز.

ويقول في تعليقه على الآيتين رقم (1، 2) من سورة الأنعام: " (بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ): مقدم ومؤخر، مجازه: يعدلون بربهم، أي: يجعلون له عدلا، تبارك وتعالى عما يصفون. (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) مقدم ومؤخر، مجازه: وعنده أجل مسمى، أي: وقت مؤقت " (). وتلك إشارة ذكية " للتقديم والتأخير" الرتبي. ففي الآية الأولى أشار إلى تقدم الجار والمجرور اللذين سدا مسد المفعول به على الفعل والفاعل، ويجعل ذلك من المجاز، ويشير إلى الترتيب الأصلي للجملة بقوله: (يجعلون له عدلا). وفي الآية الثانية يشير إلى الابتداء بالنكرة وما يسوغ ذلك، فالمبتدأ في الآية هو كلمة (أجل) جاء نكرة جاز الابتداء بها على خلاف الأصل لأنها موصوفة بكلمة (مسمى). وأبو عبيدة يجعل هذا الاختلال التركيبي الذي حدث من المجاز، ويشير إلى النسق المثالي للجملة وهو: وعنده أجل مسمى. ولا ندري السبب الذي دفعه إلى الإشارة إلى هذا النسق رغم وجود ما يسوغ الابتداء بالنكرة وهو وصفها.

هكذا كان صنيع أبي عبيدة في كتابه " مجاز القرآن " يكتفي بالإشارة دون النص على نوع " التقديم والتأخير "، واضعاً نصب عينه نوعية معينة من المتلقين هم أرباب الذوق والفهم.

أما الأخفش فكاد أن يقصر كتابه " معاني القرآن " على ذكر مواضع "التقديم والتأخير" المعنوي فقط دون غيره. ويجعل مدار ذلك هو ذوقه وحسه البلاغي واللغوي، فهو يقف أمام موضع " التقديم والتأخير " في الآية القرآنية ويحكم ثقافته اللغوية والبلاغية ليخرج بما وصل إليه من كوامن ودرر. يقول: " في كتاب الله (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً يُوحَى إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ) والمعنى – والله أعلم – وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا يوحى إليهم بالبينات وبالزبر فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " ().

ويقول: " قال: (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ) على: إنه (أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ) (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْماَنَ) و (إِنَّهُ بِسْمِ اللهِ). و (بِسْمِ الْلَّهِ) مقدمة في المعنى ". () ويقول: " أما (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) فعلى معنى (يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ)(إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) على التقديم والتأخير " ().

من النصوص السابقة نلاحظ تأكيد الأخفش على جانب " التقديم والتأخير" المعنوي، وتحكيم الذوق، ورهافة الحس والفهم.

وابن قتيبة يسلك الدرب نفسه، فيجعل مواضع " التقديم والتأخير " في كتابه في جانب المعنى. يقول: " ومن المقدم والمؤخر قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً) ()، أراد: أنزل الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا. وقوله: (فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ) () أي: بشرناها بإسحاق فضحكت ". () فهو هنا يجعل المعنى هو المحرك الأهم في توجيه ما يرد من تقديم وتأخير في الآيات القرآنية. ففي الآية الأولى يجعل الحال (قيما) أحق بالتقديم إلى جوار صاحب الحال (الكتاب) وبذلك تتوالى الأوصاف الجميلة أولا ثم تليها ما عدا ذلك من أوصاف، لينفي عن القرآن الكريم صفة الاعوجاج وحاشاه عن ذلك. فالإثبات أحق بالتقديم، وأوكد في النفس. وفي الآية الثانية يراعي النص القرآني الحالة النفسية لزوجة نبي الله إبراهيم – عليه السلام – إذ بلغت من العمر ما بلغت ثم تبشر بأنها ستلد غلاما، فيكون رد الفعل المتوقع ما يشبه عدم التصديق (الهيستريا)، ويكون المعبر الحقيقي لعدم التصديق هو الضحك. فعلى هذا المعنى راعى ابن قتيبة الحالة النفسية للزوجة في توجيه الآية القرآنية.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير