بألف شمعة يهتدي الدليل إلى نظم هذا البيت المشكل " ().فهذه المقالة تحمل في كلماتها الوجيزة توصيف بليغ لحالات المعايشة النقدية التي تنتاب الناقد عند تعرضه بالدرس والتحليل لنص ما، (بألف شمعة) فما بالك بالوقت الذي يلزم لينقضي ضوء ألف شمعة إنها تحتاج على الأقل لألف ليلة، فما بالك لو عايشت بيتاً شعرياً ألف ليلة لتفتش عما به من دلالات، وقد لا تظفر بشيء منه لإلغازه وغموضه، أو أنه لا جمال فيه.
وأبو عبد الله الأندلسي (ت450 هـ) في كتابه " المعيار في أوزان الأشعار " يجعل من تعريف النظم جل غايته، ويجعل من " التقديم والتأخير " وسيلة من وسائل هذا النظم، ويذكر له وجوه الجواز وعدمه. يقول الأندلسي في تعريف النظم: " هو تأليف الكلام على وجه دون وجه، منه ما يجوز فيه التقديم والتأخير، كتقديم المفعول على الفاعل حيث يكون أهم، والحاجة إليه أشد نحو قوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ) (). ومنه ما يقبح، وهو الذي يؤدي إليه تطلب وزن نحو قول الأعشى ():
أَفِي الطَّوْفِ عَلَى الرَّدَى وَكَمْ مِنْ رَدٍّ أَهْلَهُ لَمْ يَرُمِ
............ ومنه مالا يصح بوجه كتقديم الخبر والمفعول حيث يشتبه، وتقديم الصلة على الموصول، والمضاف إليه على المضاف، وتوابع الأسماء، وتقديم المضمر على المظهر، وغير ذلك مما يطول تعداده، وتنبئ كتب النحو عنه " (). فالأندلسي في هذا النص يتبنى وجهة النظر النحوية، ويسمح بنقل ما (جوزه وقبحه ومنعه) النحويون. فقد بدأ بتعريف النظم بأنه مطلق الحرية التي ينتهجها المبدع في اختيار كلماته وتأليفها على وجه دون آخر، وتلك الحرية هي مناط الإبداع.
ويشرع الأندلسي بعد ذلك في تفصيل أوجه استعمال " التقديم والتأخير " في النظم فيجعله على ثلاثة أقسام هي:
1 - ما يجوز فيه التقديم والتأخير، وجعل منه تقديم المفعول على الفاعل لكونه أهم والحاجة إليه أشد.
2 - ما يقبح فيه التقديم والتأخير، وجعل منه ما يضطره الوزن في الشعر من ضرورات، كذلك تقديم الخبر على المبتدأ إذا أشكل التقديم، دون أن يفصل هنا سبب هذا الإشكال.
3 - ما لا يصح بوجه مثل تقديم الخبر والمفعول إذا أشكلت الجملة، وتقديم الصلة على الموصول، وتقديم المضاف إليه على المضاف، وتقديم توابع الأسماء على متبوعها، وتقديم المضمر على المظهر لاستحالة عود الضمير على متأخر. وهو هنا يكرر التأكيد على أن تقديم الخبر مما يقبح عند الإشكال، لكن هذا الإشكال يتخذ شكلين هما: إشكال حادث بمداخلة التقديم للجملة، وإشكال حادث لإشكال الجملة نفسها، ولا ندري ما الذي يقصده بهذه الإشارة، فقد كان يكفيه الإشارة إلى أن تقديم الخبر بلا ضابط مما يشكل ويقبح.
والملاحظ لمن يتأمل كتاب " المعيار " أن أبا عبد الله الأندلسي قد انتهج نهجا فريدا في تأليف الكتاب إذ بدأ بتعريف " النظم "، ثم قسم الكتاب بعد ذلك إلى مباحث مثل " التقديم والتأخير " , " الحذف والذكر " و " والفصل والوصل " و" النفي " و" الاستفهام "، ثم شرع في تكرار تعريف النظم في بداية كل مبحث من المباحث السابقة، تأكيدا للمعنى الذي يرمي إليه. ولولا السبق الزمني – الذي نجزم به – للأندلسي، لقلنا بالأثر الجرجاني في هذا الكتاب.
وابن رشيق القيرواني (ت 456هـ) في كتابه " العمدة " يستعذب " التقديم والتأخير " ولكنه يعدد في الوقت نفسه مثالب استخدامه ويستهجن ذلك، وما بين الاستعذاب والاستهجان نقف مدهوشين من جراء هذا الفعل النقدي. يقول ابن رشيق: " ومن الشعراء من يضع كل لفظة موضعها لا يعدوه، فيكون كلامه ظاهرا غير مشكل، وسهلا غير متكلف، ومنهم من يقدم ويؤخر؛ إما لضرورة وزن أو قافية وهو أعذب، وإما ليدل على أنه يعرف تصريف الكلام ويقدر على تعقيده، وهذا هو العي بعينه " ().هكذا ترى في نص واحد، بل وفي سطر واحد رأيين لبلاغي ناقد فحل، هما في حقيقة الأمر طرفا نقيض. فابن رشيق يمدح من لا يضمن شعره سوء الترتيب أي " التقديم والتأخير "، فيجعل كلامه ظاهرا غير مشكل، فيمدحه بالابتعاد عن الإشكال والتكلف، ويذم من يستخدم هذه الوسيلة، ثم يعود فيقول: " ومنهم من يقدم ويؤخر؛ ما لضرورة وزن أو قافية وهو أعذب "، فكيف يستقيم هذا الكلام المتناقض؟! بل وفي الموضع نفسه ينعى على
¥