تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

من يفعل ذلك إظهارا لمقدرته على تصريف الكلام وتعقيده بقوله: " وهذا هو العي بعينه ". إن النص السابق يضع أمام رأي ابن رشيق الكثير من علامات الاستفهام.

ويعود ابن رشيق فيقول: " ورأيت من علماء بلدنا من لا يحكم للشاعر بالتقدم، ولا يقضي له بالعلم، إلا أن يضمن في شعره التقديم والتأخير، وأنا استثقل ذلك من جهة ما قدمت، وأكثر ما تجده في أشعار النحويين " ().فهو هنا يعتمد الذم لذلك الفعل والصنيع رأيا له بقوله: " وأنا استثقل ذلك ". ولعل نقل ابن رشيق لرأي الرماني في تفصيله للقاعدة التي تحكم فنية توظيف " التقديم والتأخير " رغبة منه في الوقوف على أصل حاكم لهذه المسألة، يقول: " قال علي بن عيسى الرماني: أسباب الإشكال ثلاثة: التغيير عن الأغلب كالتقديم والتأخير، وما أشبهه، وسلوك الطريق الأبعد، وإيقاع المشترك، وكل ذلك اجتمع في بيت الفرزدق ():

وَمَا مِثْلُهُ فِي النَّاسِ إِلاَّ مُمَلَّكاً أَبُو أُمِّهِ حَيٌّ أَبُوهُ يُقَارِبُهُ " ().

وابن شرف القيرواني (ت460هـ) في " رسائل الانتقاد " ينقل لنا كراهية النقاد لتعقيد الكلام في الشعر بقوله: " ويكره النقاد تعقيد الكلام في الشعر، وتقديم آخره، وتأخير أوله، كقول الفرزدق:

وَمَا مِثْلُهُ فِي النَّاسِ إِلاَّ مُمَلَّكاً أَبُو أُمِّهِ حَيٌّ أَبُوهُ يُقَارِبُهُ " ().

ويكتفي ابن شرف بنقل هذه الكراهية دونما تعليق.

أما ابن سنان الخفاجي (ت 466هـ) فقد كان لزاما عليه وهوالباحث في أسرار الفصاحة، والمنقب عن الأوجه التي يجب أن تلزم الكلام الفصيح , في كتابه " سر الفصاحة ". فقد بدأ كلامه بالتأكيد على كون أحد أصول الكلام هو وضع الألفاظ مواضعها، يقول ابن سنان: " إن أحد الأصول في حسنه، وضع الألفاظ موضعها حقيقة أو مجازا لا ينكره الاستعمال، ولا يبعد فيه " (). وهذه الإشارة رددها من سبقوه وأكدوا عليها، إلا أن تأكيده كان أشد لكونها من أصول حسن الكلام. ويعود ابن سنان إلى تأكيده مرة أخرى بقوله: " فمن وضع الألفاظ موضعها إلا يكون في الكلام تقديم وتأخير حتى لا يؤدي ذلك إلى فساد معناه وإعرابه في بعض المواضع " (). فهو هنا يجعل من استخدام هذه الفنية وسيلة لفساد المعنى والإعراب، لكنها ليست كذلك في كل المواضع بل في بعض المواضع فقط، ولم يبين أو يوضح ما يقصده (بالبعضية) هنا وترك العبارة على إطلاقها.

إن هذه الإشارات الواردة عن نقاد وبلاغيي هذه المرحلة تنبئ فيما تنبئ به عن تنبه لأهمية المبحث، وطرق توظيفه. وقد أشار هؤلاء البلاغيون إلى درجات الإساءة والإجادة في هذا التوظيف. وقد وردت هذه الإشارات في معرض التطبيق، إذ جعل البلاغيون من التطبيق والتحليل مدخلا للحديث عن المبحث، وأكثروا من سوق الشواهد الشعرية تدليلا على ما ذهبوا إليه من آراء.

وقد ترددت هذه الآراء بين معياري الإجادة والإساءة؛ فالقليل منهم على استجادة هذه الوسيلة الأسلوبية، وأهمية توظيفها لإثراء النظم، بينما الكثرة الكاثرة على استقباحها، والاعتقاد الراسخ بكونها أحد أهم وسائل التعقيد والمعاظلة والإلغاز. وأيا ما كان الأمر فالذي يعنينا هنا في هذه المرحلة هو التنبه والوعي الذي أبداه البلاغيون في مؤلفاتهم لمبحث " التقديم والتأخير " وما استدعاه ذلك من عناية، وما استلزمه من تحليلات ذوقية، واستنتاجات دلالية رائعة.

الوقفة الثانية:

تتعلق هذه الوقفة ببعض القضايا المثارة في تناولات بلاغيي هذه المرحلة في ثنايا بحثهم " للتقديم والتأخير "، هذه القضايا وثيقة الصلة بالمبحث.

والبداية مع قدامة بن جعفر في كتابه " نقد الشعر " إذ اعتمد للشعر أركانا أربع هي (اللفظ، والمعنى، والوزن، والقافية) ثم تناول هذه الأركان في ائتلافاتها مع بعضها البعض، فجعل لهذه الائتلافات نعوتا وعيوبا، ومن خلال حديثه عن هذه النعوت والعيوب تتطرق إلى " التقديم والتأخير "، فجاء حديثه عن المبحث في ضربين من هذه الائتلافات، وأثار بهذا الفعل قضيتين هما:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير