إلا السواد الأعظم: احتراس يبعث الطمأنينة في النفس بعد ذلك الوعيد العام، فليس الأمر عاما بل قد خص بالاستثناء، ولفظ "السواد الأعظم": يزيد النفس طمأنينة إذ أصحاب المقالات وإن تعددت في مقابل أهل السنة أصحاب الأمر الأول: قلة، فالأصل في جمهور المسلمين: السنة. وذلك من رحمة الله، عز وجل، بهذه الأمة، فليس في الحديث ما يثير الفزع عند تأمله بل هو مما يحمل الإنسان على التزام طريقة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصحبه، رضي الله عنهم، فالنجاة كل النجاة في ذلك.
*****
ومنه قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع وباعا بباع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه"
لتتبعن: توكيد بالقسم المحذوف واللام الموطئة ونون التوكيد.
سنن الذين من قبلكم: مضاف إلى الموصول فيفيد العموم، فالمتابعة ستقع في كل السنن: علمية كانت أو عملية، في الظاهر والباطن، كما هو مشاهد اليوم.
شبرا بشبر وذراعا بذراع: إطناب يدل على شدة التأثر بطرائق الأولين.
حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه: مبالغة تصب في قناة ما سبق من المتابعة العمياء التي تذهب بعقل التابع فينساق وراء المتبوع ولو سلك أخس المسالك.
والكلام أيضا: خبري المبنى طلبي المعنى، ففيه الأمر باجتناب طرائق من سبقنا ففي شرعتنا غنية عن كل شرعة.
*****
ومن قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم:
"سيكون في أمتي اختلاف وفرقة، ثم قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يرجعون حتى يرتد على فوقه، هم شر الخلق والخليقة، طوبى لمن قتلهم أو قتلوه، يدعون إلى كتاب الله، وليسوا منه في شيء، من قتلهم كان أولى بالله منهم" قالوا: يا رسول الله، ما سيماهم؟ قال: التحليق".
اختلاف وفرقة: تنكير للتعظيم، فالاختلاف بعد مقتل عثمان، رضي الله عنه، كان عظيما.
قوم يحسنون القيل، ويسيئون الفعل: تفصيل لإجمال الاختلاف والفرقة فهو منزل منزلة البدل المبين لإجمال المبدل منه، ولذلك حسن الفصل في هذا الموضع.
وفي ذكرهم بلفظ "قوم": المنكر: نوع حط من شأنهم، لكونهم ممن لا يستأهل الذكر بوصف مدح، وإنما لزم ذكرهم بأي وصف ليصح إسناد الفعل إليهم، فاختار وصفا يدل على نوع تجهيل وإعراض.
يحسنون القيل: في الإتيان بالمضارع دليل على أن تلك عادتهم المطردة، وفي طباق الإيجاب بين: "يحسنون" و "يسيئون"، و: "القيل" و "الفعل" مزيد بيان لحالهم إذ ذكر الشيء وضده مما يزيده بيانا وتميزا.
لا يجاوز تراقيهم: كناية عن عدم وصول القرآن إلى قلوبهم فهو يتوقف عند تراقيهم، أو عدم رفع أعمالهم فإنها تتوقف عندها. فاستعار الانتقال الحسي للانتقال المعنوي، ويرد على ذلك في المعنى الثاني: صعود الأعمال، أنه صعود حقيقي لا مجازي ليقال بالاستعارة، فإن الأعمال تصعد إلى الله، عز وجل، حقيقة، مصداق قوله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)، فالصعود والرفع على أصلهما، لعدم وجود القرينة السياقية الصارفة، وذلك مما استدل به أهل السنة على علو الله، عز وجل، على خلقه: ذاتا وصفاتا، فله: علو الذات، وعلو الشأن، وعلو القهر والغلبة تبارك وتعالى. يمرقون من الدين: استعارة مروق السهم الحسي للخروج من الدين، فاستعار الفعل: "مرق" للفعل: "خرج": استعارة تصريحية تبعية لوقوعها في الفعل.
هم شر الخلق والخليقة: قصر بتعريف الجزأين، وقد يقال بأنه من القصر الإضافي لا الحقيقي، إذ الخوارج على الراجح من أقوال أهل العلم: ليسوا بكفار، وإن كانت بدعتهم مغلظة، فالكافر الأصلي شر منهم، فيكون في القصر هنا مزيد تنفير من طريقتهم، فالكلام جار مجرى: زيد الشاعر، فلا يلزم منه قصر الشعر على زيد، أو كونه أفضل شاعر، وإن لزم منه الثناء على نظمه.
الخلق والخليقة: جناس.
طوبى لمن قتلهم أو قتلوه: تعجيل بالبشرى، بتصدير الكلام بالدعاء، ولذلك صح الابتداء به مع كونه نكرة، لأن في الدعاء معنى الحكم، وقد منع النحاة الابتداء بالنكرة لأن المبتدأ محكوم عليه، فيلزم تصوره قبل الحكم عليه، فإذا ما قدم الحكم في نحو: في بيتنا رجل، جاز أن يكون المبتدأ نكرة لأن تصدير الكلام بالحكم، محط الفائدة، جعل النفس تتطلع بعد ذلك لأي محكوم عليه، ولو نكرة، فيقال هنا أيضا: المبتدأ مع كونه نكرة إلا أنه يحمل في معناه معنى الحكم، فهو وعد لمن قتلهم، والوعد: حكم باستحقاق شيء نظير شيء، فصحت البداءة بالنكرة في هذا الموضع.
يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء: إطناب في ذمهم يناسب مقام التنفير من طريقتهم، فمن يقول ما لا يفعل مستحق للذم.
من قاتلهم كان أولى بالله منهم: شرط لإلهاب السامع وتهييجه لحمله على قتالهم إن تيسر له ذلك، فهو خبري المبنى طلبي المعنى، إذ معنى الوعد فيه يدل على الأمر بامتثال الشرط ليستحق الفاعل المشروط.
التحليق: إيجاز بالحذف لدلالة ما تقدم من السؤال عليه، فتقدير الكلام: سيماهم التحليق.
وهذه من روايات الآجري، رحمه الله، في كتابه النفيس: "الشريعة".
والله أعلى وأعلم.
¥