تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وعليكم بالطاعة وإن كان عبدا حبشيا: إغراء آخر، هو فرع على الإغراء الأول: فهو من قبيل عطف الخاص على العام، إذ طاعة الأمير في غير معصية، (وهذا قيد مهم تخرج به صور الطاعة الباردة التي نراها في هذه الأيام ممن طرق أبواب السلاطين من علماء السوء أصحاب الرياسات الزائلة، ولعل فضح أمثالهم من منح الرب، جل وعلا، في النوازل الكونية التي تنزل بنا كنازلة غزة فرج الله عن أهلها)، هذه الطاعة بالقيد السابق: فرد من أفراد عموم سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإنما خص بالذكر لأنه من آكد لوازم اتباع السنة، ولذلك أطلق على الذين اقتفوا أثر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصف: "أهل السنة والجماعة"، فهم أهل سنته علما، وأهل الجماعة المتآلفة: عملا، ولو كان الأمير فاجرا ما لم يظهر الكفر البواح. فالسنة: علم واعتقاد، و: الجماعة: عمل وسياسة شرعية.

وإنما المؤمن كالجمل الأنف حيث قيد انقاد: قصر إضافي، إذ المؤمن فيه من الصفات غير ما ذكر، ولكن السياق اقتضى التوكيد على انقياد المؤمن لأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والتزامه جماعة المسلمين، وفي الكلام: تشبيه مرسل مفصل ذكر فيه ركنا التشبيه، وأداته: "الكاف" ووجهه وهو تمام الانقياد الذي دل عليه قوله: "حيث قيد انقاد"، وقد يقال هنا، أيضا، بالتشبيه التمثيلي، إذ التشبيه لصورة مركبة من الإيمان والانقياد، لصورة مركبة من الجمل المأنوف وهو الذي عقر الخشاش أنفه، فهو لا يمتنع على قائده للوجع الذى به، فليس التشبيه بصورة مفردة للجمل مطلقا، وإنما الصورة مركبة من الجمل مقيدا بذلك الوصف.

*****

ومن مأثور ابن مسعود رضي الله عنه:

الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة:

ففيه مقابلة بين: "الاقتصاد" و "الاجتهاد"، و: "السنة" و "البدعة".

و "خير": أفعل منزوعة الدلالة على التفضيل، إذ لا خير في البدعة أصلا، وإنما سيق الخبر مساق الموازنة بين أمرين: تنزلا مع المخاطب، فإن كان في البدعة خير، فإن السنة خير منها، فكيف ولا خير فيها أصلا؟!!!.

ومنه قول حسان رضي الله عنه:

فشركما لخيركما الفداء

ولا شر في النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا خير في خصمه أصلا.

و"أل" في "السنة" و "البدعة": عهدية تشير إلى السنة العلمية والبدعة العلمية، فالأثر قد ورد في سياق التحذير من المقالات المحدثة في أصول الدين.

وفي رواية أبي الدرداء رضي الله عنه:

"اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة، إنك إن تتبع خير من أن تبتدع، ولن تخطئ الطريق ما اتبعت الأثر".

ففي الشرط تحضيض على الاتباع.

*****

ومن قول ابن مسعود، رضي الله عنه، أيضا: "إنا نقتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع، ولن نضل ما تمسكنا بالأثر"

ففيه طباق بين الاقتداء والابتداء، والاتباع والابتداع.

ولن نضل: نفي تسلط على المصدر الكامن في الفعل: "نضل"، فيفيد العموم، وفيه معنى الطلب الإنشائي.

وحذف جواب الشرط لدلالة ما قبله عليه، فتقدير الكلام:

ما تمسكنا بالأثر فلن نضل.

*****

ومن حديث أسامة بن شريك رضي الله عنه: "يد الله على الجماعة، فإذا شذ الشاذ منهم اختطفته الشياطين، كما يختطف الشاة ذئب الغنم".

وقد تكلم في إسناده.

يد الله: إضافة صفة ذات إلى موصوفها.

على الجماعة: لازمها: إظهار مزيد العناية بالجماعة المسلمة، فإن يد الله فوق أيديهم، وفي ذلك من النصرة والتأييد ما فيه مع إجراء اللفظ على ظاهره اللائق بجلال الله عز وجل، فليس كمثله شيء في ذاته أو أسمائه أو صفاته أو أفعاله.

فإذ شذ الشاذ: جناش اشتقاقي بين الفعل: "شذ" واسم الفاعل: "الشاذ" يزيد اللفظ طلاوة.

اختطفته الشياطين: استعار معنى الاختطاف الجسدي للإضلال المعنوي فهو بمنزلة اختطاف عقل وقلب الشاذ عن الجماعة، والتناسب بينهما واضح: فإن الشاذ بجسده عرضة للاختطاف، فكذلك الشاذ برأيه فإنه، أيضا، مظنة الاختطاف، وشتان اختطاف البدن واختطاف الروح، فإن الأول، وإن كان فيه ضرر على الأبدان، إلا أنه لا يعدل الضرر الواقع على الأديان، فهلاك البدن أهون من هلاك الدين، فإن النجاة متصورة في الأول، بل قد يكون إهلاك البدن سبب النجاة، كإهلاكها في ميادين الوغى دفاعا عن أركان الملة وحماية لجناب النحلة، بخلاف هلاك الدين فإنه الخسران في الأولى والآخرة، فليس بعد ذلك الخسران خسران.

كما يختطف الشاة ذئب الغنم: تشبيه مرسل، ذكر فيه ركنا التشبيه وأداته، وهو من جهة أخرى: تمثيلي إذ استعار صورة مركبة من شاة يختطفها الذئب إلى صورة أخرى مركبة من صاحب هوى يضله الشيطان.

والإضافة في: "ذئب الغنم": إضافة ملابسة على وزان:

إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرةٍ ******* سهيل أشاعت غزلها في القرائب

وفي الكلام: مراعاة للنظير، إذ اختطاف الذئب للشاة نظير ملائم لاختطاف الذئب للشاة.

ورواية ابن عمر رضي الله عنهما: "يد الله على الجماعة، فاتبعوا السواد الأعظم، فإنه من شذ شذ في النار".

وفيها أيضا من العناية بأمر الجماعة ما فيه، والفاء في "فاتبعوا" تحمل في طياتها معنى السببية، إذ الأمر بعدها معلول ما قبلها، فيكون ذكر الخبر: "يد الله على الجماعة": من باب تعجيل المسرة، بذكر الثواب قبل العمل، وذلك مما يحمل المخاطب على سرعة الامتثال طلبا لذلك الثواب، وأي ثواب أعظم من معية الله، عز وجل، لأوليائه: معية نصرة وتأييد، وفي التنزيل: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)، و: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ).

وفي الشرط الخبري المبنى: طلب مقتضاه التزام الجماعة، فإن ذكر الوعيد على مفارقتها يستلزم الأمر بضده من لزومها، فالنهي عن الشيء يستلزم الأمر بضده كما قرر المحققون من أهل الأصول.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير