توكيد بقسم محذوف واللام ونون التوكيد، وفي هذا إشعار بشدة حرصهم على الفانية في مقابل تفريطهم في الباقية فهما متناقضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، فإما إقبال على الباقية مع التزود بما يُصْلِح المعاش، وإما انكباب على الفانية جمعا واكتنازا.
"على حياة": تنكير للتحقير.
"ومن الذين أشركوا": إيجاز بالحذف، فتقدير الكلام: وأحرص من الذين أشركوا، كما أشار إلى ذلك القرطبي رحمه الله.
"لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ": لو: مصدرية، وفي الإتيان بالمعنى على صيغة المضارع دلالة على حرصهم الدائم على هذه الأمنية الرخيصة التي تنسجم مع دناءة هممهم.
"وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ": احتراس عما طلبوه من النجاة بطول البقاء في الفانية، فلن ينجيهم طول العمر من عذاب الخلد.
"قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ":
شرط فيه معنى التهديد، والقاعدة في مثل هذه المواضع: أن الصيغة، وإن كانت خبرا بتعليق وقوع المشروط على تحقق الشرط، إلا أنها طلبية في المعنى، إذ الوعيد المستفاد منها بمنزلة النهي، فهو باعث على الترك.
وفي تعديد أوصاف الكتاب المنزل مزيد ثناء عليه، فالإطناب بتعديد الأوصاف في مقام المدح يناسب السياق، ولذلك كان الأصل في وصف الباري عز وجل: الإثبات المفصل والنفي المجمل.
وفي تخصيص القلب بمحل النزول: خصوص أريد به العموم، فالنزول على الرسول البشري، والقلب أخص من ذات الرسول، وقد يقال بأن ذكر القلب لكونه أشرف الباطن، كما خص الوجه بالذكر في مواضع لكونه أشرف الظاهر، وقد يقال بأن تخصيصه بالذكر لأنه موضع العقل والعلم وتلقي المعارف كما أشار إلى ذلك القرطبي، رحمه الله، وهذا القول علة ما قبله، فإن علة كونه أشرف الباطن أنه مستودع العلوم والمعارف، وأشرفها: العلوم الإلهية.
واللام في "للمؤمنين": تفيد الاستحقاق، فقد علقت الهداية والبشارة على الوصف الذي اشتقت منه الصفة المشبهة: "مؤمنين"، فعلة استحقاقهم ذلك: الإيمان.
"مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ":
تكرار للتهديد، وفي ذلك من بيان مكانة روح القدس: جبريل عليه السلام ما فيه، إذ ورد في آية منفردة، ثم تكرر ذكره في آية تالية مرة على سبيل:
العموم في: "ملائكته"، وأخرى على سبيل الخصوص إذ أفرد بالذكر، فكان ذلك من الإطناب بذكر الخصوص بعد العموم.
يقول القرطبي رحمه الله:
"فإن قيل: لم خص الله جبريل وميكائيل بالذكر وإن كان ذكر الملائكة قد عمهما؟ قيل له: خصهما بالذكر تشريفا لهما، كما قال: "فيهما فاكهة ونخل ورمان".
وقيل: خصا لأن اليهود ذكروهما، ونزلت الآية بسببهما، فذكرهما واجب لئلا تقول اليهود: إنا لم نعاد الله وجميع ملائكته، فنص الله تعالى عليهما لإبطال ما يتأولونه من التخصيص". اهـ
فإن نفي معاداة جميع الملائكة: مجمل، إذ لا ينفي احتمال عداوة بعضهم، وهو ما وقع فيه اليهود فعلا، فإن قولهم: نحن لا نعادي جميع الملائكة قد يوهم نفي معاداتهم جبريل عليه السلام في مقابل ادعاء محبة ميكائيل عليه السلام، والتفريق بينهما: تفريق بين متماثلين، إذ كلاهما من ملائكة الله، عز وجل، فلما احتمل الأمر ذلك نصت الآية عليهما خصوصا بعد عموم لأنهما: محل النزاع.
ومن بديع قول عمر، رضي الله عنه، ليهود المدينة: "فأشهد أن الذي هو عدو للذي عن يمينه، (وهو: جبريل عليه السلام)، عدو للذي عن يساره، (وهو: ميكائيل عليه السلام)، والذي هو عدو للذي عن يساره عدو للذي عن يمينه، وأنه من كان عدوا لهما فإنه عدو لله". اهـ
وهذا من الإلزام العقلي البديع، إذ عدو الشيء: عدو نظيره، وعدو موجده لزوما. ولا يرد على ذلك أن الله، عز وجل، قد أوجد بإرادته الكونية موجودات يبغضها كإبليس مادة الشر في هذا العالم، إذ الملائكة إنما خلقوا لطاعة الرحمن، تبارك وتعالى، فالمعصية في حقهم منتفية، فلا يتصور أن يبغضهم مؤمن، بل إن بغضهم علامة كفر ونفاق، إذ من أبغض المطيع، فإنه يبغض من يطيع بداهة.
¥