قل هاتوا برهانكم: أمر يفيد التحدي والتعجيز فمقالتهم كما تقدم: محض دعوى، وما أسهل الدعاوى.
إن كنتم صادقين: تذييل يناسب ما تقدم من التحدي، إذ فيه أيضا معنى التحدي على وزان: إن كنت رجلا فافعل!!!.
بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ:
بلى: إبطال لدعواهم.
من أسلم: عموم أفاده الاسم الموصول: "من"، فلا يحتكر أحد الحق لنفسه أو طائفته، بل هو سهل مبذول لكل من أخلص النية في طلبه، فبذل الجهد في تعلمه والعمل به.
وجهه: مجاز عند من يقول به: إذ أطلق البعض وأراد الكل فتقدير الكلام: بلى من أسلم نفسه، وإنما خص الوجه بالذكر لكونه أشرف أجزاء البدن، وإقباله على الشيء مئنة من إقبال القلب عليه، فهو الذي تحصل به المواجهة فيعرف في تقاسيمه: القبول أو الرد.
يقول القرطبي رحمه الله:
"وخص الوجه بالذكر لكونه أشرف ما يرى من الإنسان، ولأنه موضع الحواس، وفيه يظهر العز والذل. والعرب تخبر بالوجه عن جملة الشيء". اهـ
"الجامع لأحكام القرآن"، (2/ 67).
لله: اللام تفيد الاختصاص والاستحقاق، فقد أسلم وجهه لمن استحق ذلك، فلم يخص غيره بعبادة قلبية أو بدنية. ولم يقل: لربه، لأن المقام مقام تأله وعبادة، لا ربوبية، وإن صح أن يسلم وجهه لربه، إذ الإسلام دليل كمال التأله والعبادة، وهو فرع على كمال ربوبية الله، عز وجل، فالخالق الرازق المدبر هو وحده الذي يستحق الذل والخضوع، ولقائل أن يقول: "لله" أبلغ من جهة: أن توحيد الألوهية يدل على توحيد الربوبية دلالة تضمن: إذ الربوبية هي اللبنة الأولى في صرح الألوهية، بخلاف دلالة "لربه" على الألوهية فهي دلالة التزام، إذ لازم الربوبية الألوهية، ودلالة التضمن أقوى من دلالة الالتزام، إذ لا يتصور تخلف الأمر في دلالة التضمن، فلا يتصور أن يخلص العبد وجهه لله، وهو غير مقر بربوبيته، بخلاف دلالة الالتزام فإنها قد تتخلف إذ يتصور أن يقر العبد بالربوبية، ويجحد الألوهية استكبارا وعنادا، وفي التنزيل: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)، فقد أقروا، فأتوا بالملزوم، ولكنهم جحدوا فتخلف لازمه.
فله أجره: اللام للاختصاص تفضلا من الله، عز وجل، ولا يقال للاستحقاق تأدبا معه، جل وعلا، فلا يجب عليه إلا ما كتبه على نفسه، من قبيل الرحمة في قوله تعالى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)، فإن شاء أعطى فضلا وإن شاء منع عدلا.
عند ربه: إطناب يفيد مزيد توكيد ليطمئن العامل على ثواب عمله فهو مدخر له عند ربه الذي لا يظلم ولا يبخس، بل يشكر القليل وينميه، وفي الحديث: (مَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا طَيِّبًا كَانَ إِنَّمَا يَضَعُهَا فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ يُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ).
ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون: لا خوف عليهم مما مضى ولا يحزنون على ما هو آت، والضمير "هم" يفيد التوكيد على وزان قوله تعالى: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ:
اليهود: كل أريد به البعض وهم الذين اختصموا عند النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد يقال بأن العموم المعنوي يشمل أبناء ملتهم في كل عصر ومصر، فيكون تخصيص أولئك بالذكر لأنهم سبب نزول الآية: وسبب النزول لا يخصص العموم، وإنما يجري مجرى التعريف بالمثال.
على شيء: أي يعتد به، فحذف النعت لدلالة السياق عليه، وقد يقال النكرة في سياق النفي تفيد العموم فليسوا على شيء قل أو أكثر فلا حاجة إلى تقدير محذوف إذ هو خلاف الأصل كما تقدم.
¥