وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ: أبلغ في قيام الحجة عليهم فإن السيئة من العالم أقبح.
كذلك قال الذين لا يعلمون: في تشبيه مقالتهم بمقالة الجاهل مزيد ذم لهم إذ علمهم: كلا علم.
فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ: رد للأمر إلى نصابه، والفاء التعقيبية مشعرة بذلك وإن استبعده الجاحدون.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[29 - 12 - 2008, 08:26 ص]ـ
ثم امتن الله، عز وجل، على بني إسرائيل، بما أنعم عليهم من عطاء ربوبيته التي قهرت جبار مصر: فرعون، وألقته صريعا أمام أعينهم، ولا أعظم منة على المظلوم من رؤية ظالمه يهلك أمام عينيه، ولذلك امتن الله، عز وجل، عليهم بذلك فقال:
(وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) فنسب الإنجاء إليه، عز وجل، لبيان عظم المنة الربانية عليهم، وعظمت المنة باستعمال لفظ السوم، وهو لفظ مشترك يدل على أكثر من معنى على سبيل البدل، فلا تجتمع تلك المعاني في سياق واحد لاختلاف حقائقها، كلفظ: "العين" فإنه يطلق على الباصرة، وعلى عين الماء، ولا رابط معنويا بينها، وإنما اشتركت في اللفظ الدال عليها، ولكن في بعض السياقات يصح حمل المشترك على كل معانيه، كما اختار ذلك جمع كبير من أهل العلم من أتباع المذاهب، ولعل هذا السياق منها، فعظم المنة مئنة من تعدد صورها، فإن تنوعت صنوف العذاب كانت المنة أعظم بإنجائهم منها.
فالسوم يطلق على الذوق، فيكون معنى الآية: يذيقونكم سوء العذاب، ولا يلزم منه الدوام، فالإنسان قد يذوق طعم الشيء مرة ولا يعود إلى ذلك مرة أخرى.
ويطلق السوم أيضا على: الدوام، فيفيد معنى جديدا لا يتعارض مع المعنى الأول، فيكون ذلك العذاب الذي ذاقوه: دائما لا ينقطع، فيشير كل تفسير على جزء من المعنى الكلي.
وإلى ذلك أشار القرطبي، رحمه الله، بقوله: "قوله تعالى: (يسومونكم) قيل: معناه يذيقونكم ويلزمونكم إياه.
وقال أبو عبيدة: يولونكم يقال: سامه خطة خسف إذا أولاه إياها ومنه قول عمرو ابن كلثوم:
إذا ما الملك سام الناس خسفا ******* أبينا أن نقر الخسف فينا
وقيل: يديمون تعذيبكم.
والسوم: الدوام ومنه سائمة الغنم لمداومتها الرعي". اهـ
"الجامع لأحكام القرآن"، (1/ 371).
فالمنة بالإنجاء من ذوق عذاب مستمر لا ينقطع أعظم من المنة بالإنجاء من عذاب متقطع، وقد كان القوم في ذل مستمر تحت قيادة فرعون: الزعيم الملهم آنذاك!!!.
وهو عذاب بلغ من الشدة ما جاز معه الإتيان بالمصدر: "سوء"، ولا يخفى ما في المصدر من معنى الثبوت والاستمرار فضلا عن المبالغة، فقولك: محمد عدل، أبلغ في الوصف من قولك: محمد عادل، إذ الإتيان بالمصدر مئنة من تلبس الموصوف به بالمعنى الذي يدل عليه، فكأن العدل قد تجسد في شخص محمد، فكذلك عذابهم: عذاب سوء، وقد قدم الوصف على الموصوف، فالإضافة من باب: إضافة الوصف إلى موصوفه، وذلك أبلغ في الوصف من قولك: العذاب السيئ، فليس عذاب فرعون سيئا فحسب، بل هو السوء نفسه، والإنجاء من عذاب كهذا: منة أي منة من الرب القاهر الجبار عز وجل.
ولا يبعد أن تكون: "أل" في العذاب: جنسية استغراقية لعموم ما دخلت عليه، فهو عذاب قد بلغ الذروة كيفا وكما.
وقد أجمل، عز وجل، ذكر العذاب تشويقا واسترعاء للانتباه، ثم فصل بقوله:
يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ: ولا يخفى ما في ذلك من الإهانة، فإن العذاب قد طال النساء باستحيائهن للخدمة، والذرية بإهلاكها، فناسب ذلك زيادة المبنى في الفعل: "يذبح" بالتشديد فهو أبلغ في الوصف من الفعل: "يذبح" بالتخفيف، إذ طال الذبح أعدادا هائلة من أبناء بني إسرائيل، وكذلك زيادة الألف والسين والتاء في "استحيى"، فهي أبلغ في الوصف من الفعل المجرد.
¥