تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وليست المصيبة الكونية دوما أمارة من غضب الرب، جل وعلا، فقد تكون تأديبا أو تمحيصا، مصداق قوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا)، فبإذن الله الكوني جرى ما جرى، لحكمة بالغة: (لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ)، فهي منحة في حق المؤمنين، وإن كان ظاهرها الإصابة بالقتل، وهي محنة في حق الكافرين والمنافقين، وإن كان ظاهرها السلامة بالفشل والجبن عن لقاء العدو كما حدث ويحدث من أتباع حزب: عبد الله بن أبي بن سلول في كل عصر ومصر، ولعل ما يقع الآن في أرض فلسطين صورة جديدة من صور التمحيص لأولياء الرحمن، والمحق لأولياء الشيطان.

فتوبوا إلى بارئكم: تعقيب بالفاء، وفيها معنى السببية، فإن ما ارتكبتموه سبب في طلب التوبة، بل هو آكد أسبابها، فهو أعظم الذنوب، فلزم على من وقع فيه المبادرة إلى التوبة. فإذا كان الظلم قد وقع بإذن الله الكوني النافذ: متعلق ربوبيته القاهرة، فإن دفعه بالأمر الشرعي بالإقلاع والتوبة حتم لازم، وذلك لازم ألوهيته، وإلا صار العبد جبريا، وصارت مقالته من جنس مقالة المشركية التي قال أصحابها: (لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)

بارئكم: إشارة لطيفة إلى عظم جرمهم فقد صرفوا العبادة لغير الباري، عز وجل، الذي أخرجهم من العدم إلى الوجود، فكان أحق بالعبادة ممن سواه من آلهة الباطل التي لا تخلق ذبابا فضلا عن بشر، فهو المستحق لكمال الإلهية فرعا على كمال ربوبيته، عز وجل، إيجادا وإعدادا وإمدادا.

فاقتلوا أنفسكم: بيان لمجمل التوبة، عطف بفاء تعقيبية مسارعة في البيان، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وقد قامت الحاجة إلى بيانها إذ هي واجب الوقت على كل مكلف، وإن لم يعص، فكيف بمن وقع في أعظم معصية.

وأنفسكم بمعنى: غيركم، فليس المقصود أن يقتل كل واحد نفسه، فإن الانتحار أمر محرم في كل الشرائع، ونظيره قوله تعالى: (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ)، أي تقتلون وتخرجون غيركم ممن هو على ملتكم.

فتاب عليكم: عطف بالفاء يفيد التعقيب، كما تقدم، إذ امتثالهم الأمر كان سببا في سرعة غفران الذنب وقبول التوب.

إنه هو التواب الرحيم: جواب لسؤال مقدر، لماذا تاب عليكم؟، لأنه هو التواب الرحيم، ففي الكلام من فنون البلاغة: فن الفصل لشبه كمال الاتصال إذ الارتباط حاصل بتقدير ذلك السؤال.

وتصدير الجواب بـ: "إن": مشعر بعلية ما بعدها، فعلة توبته عليكم أنه هو التواب الرحيم.

وفي الجواب عن السؤال المقدر من المؤكدات: "إن"، وضمير الفصل "هو"، وتعريف الجزأين، واسمية الجملة.

و"التواب" و "الرحيم": صيغتا مبالغة يناسبان السياق، والتذييل بهما يناسب مقام رفع الجناية عنهم بقبول توبتهم، وفي الكلام جناس بين: "تاب" و "التواب".

فلا يتوب على العباد إلا خالقهم، عز وجل، والتوبة إلى الله عز وجل: ساترة، فهو: الحيي الستير، والتوبة إلى غيره من الكهان أرباب: كراسي الاعتراف: فاضحة.

وفي الأثر عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله ستِّير يحب الستر.

والرحمة في هذا السياق: رحمة خاصة لا تكون إلا للمؤمن العابد، لا الكافر المعبد، ومقام التوبة يناسبه ذكر الرحمة الخاصة التي يختص بها المؤمنون، لا الرحمة العامة التي تشترك فيها كل الكائنات.

وبعد التوبة: وقع خيارهم في معصية أخرى فتعدوا بطلب ما ليس لهم:

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ:

قلتم: خطاب للحاضرين لأنهم سلف المتقدمين فرضاهم عن ذلك منزل منزلة مباشرة الفعل التي تستوجب توجه الخطاب إليهم ذما وتوبيخا.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير