وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ: إيجاز بحذف الشرط المقدر، إذ تقدير الكلام: إن تقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم، وإنما حذف تعجيلا بالبشرى، وأي بشرى أعظم من غفران الذنوب.
وهو أمر تكليفي جديد، فرعا على ما تقدم من المنة الربانية بإباحة الأكل الرغد، وغالبا ما تذيل إباحة الأكل من الطيبيات وهي متعلق الربوبية المنعمة، بتكليف إلهي، فيكون شكر النعمة الربانية امتثال الأمر التكليفي الإلهي، فمن ذلك:
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)، فالنهي عن اتباع خطوات الشيطان فرع على نعمة الأكل من الحلال الطيب.
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)، فشكر الله، عز وجل، فرع على نعمة الأكل من طيبات الرزق، وقد ذيل ذلك الأمر بشرط يلهب المؤمن ويهيجه على امتثال الأمر الشرعي، وقدم فيه الضمير: "إياه": حصرا وتوكيدا، ودلت مادة عامله: "العبادة" التي اشتق منها العامل: "تعبدون" على مناط المسألة، فما خلق الثقلان إلا لعبادة الرحمن.
وقوله تعالى: (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)
فقرن أمر إباحة الأكل من الثمر وهو من عطاء الربوبية، بأمر إيتاء حقه والنهي عن الإسراف، وهما من مقتضيات الألوهية، وذيل ذلك بإثبات صفة المحبة لله، عز وجل، بدلالة مفهوم: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)، فإنه، عز وجل، يحب المقتصدين في غير بخل، ولا يحب المسرفين، وذلك قائم مقام العلة، إذ دل السياق على سؤال مقدر عن علة النهي عن الإسراف، فجاء الجواب مباشرة دون وصل بعاطف: إنه لا يحب المسرفين، وذلك ما اصطلح البلاغيون على تسميته بـ: "شبه كمال الاتصال".
و "سنزيد المحسنين": فالغفران بمحو السيئات والزيادة بكتب الحسنات، فأي منة أعظم من ذلك؟!!!، والسين مشعرة بقرب وقوع ذلك مستقبلا حضا على الامتثال، وعلقت البشارة على وصف: "الإحسان" الذي اشتق منه اسم الفاعل: "محسن"، والإحسان يكون بامتثال الأمر الإلهي، فيكون الوعد الربني بالزيادة لمن أدى الحق الإلهي بالطاعة، وذلك أمر قد اطرد كما تقرر مرارا.
ومع كل ما تقدم من نعم ربانية إلا أن مادة الخبث المتأصلة في نفوس يهود أبت إلا التمرد والعصيان:
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ:
فقابلوا البشرى بالاستهزاء المباشر الذي دل عليه التعقيب بالفاء، فجاءت العقوبة مباشرة أيضا، إذ عطف نزولها على قولهم بالفاء أيضا، فالجزاء من جنس العمل، والتفت من الخطاب إلى الغيبة إعراضا عنهم لجحودهم المنة الربانية، وحذف الفاعل في: "قيل" للعلم به، ونكر "الرجز" تعظيما، و "من" لابتداء الغاية، فهو عذاب نازل من السماء، كما نزلت النعمة منها، والباء في: "بما كانوا يفسقون": سببية، والمصدر الذي اشتق منه خبر جملة الصلة: "يفسقون" وهو: "الفسق": علة الحكم الكوني المتقدم، فقد استحقوا العقوبة الكونية فرعا على الخروج عن الطاعة الشرعية، والفسق في هذا السياق: فسق علمي وعملي، فتصورهم للأمر الشرعي: تصور فاسد حملهم على مخالفة مقتضاه التكليفي، فلو عظموا الأمر فرعا على تعظيم الآمر، عز وجل، لامتثلوا، ولكنهم: لا يرجون لله وقارا، وإذا اختل جانب الخوف في قلب المكلف: استخف بالأمر الشرعي، لا سيما إن كانت محبته لله، عز وجل، ناقصة، فلا خوف يردع عن ارتكاب المحظور ولا محبة تحمل على امتثال المأمور، وكل فساد في العمل فإنما هو فرع على الفساد في العلم، ولا أفسد من علوم بني يهود الذين أساءوا الأدب مع الباري، عز وجل، فوصفوه بوصف السوء، ومن هان عليه الجبار فأمن مكره كيف لا يهون عليه المخلوق، وهذا سر استخفافهم بالعهود، فتعقد وتنقض تبعا للأهواء والمصالح الشخصية، إذ لا وازع من دين يردع
¥