فالطباق بين النفع والضر قد استوفى الأوجه التي تقتضيها القسمة العقلية، فلا ينتفع الله، عز وجل، بطاعة طائع، ولا يضره عصيان عاص، فـ: (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا)، والمقابلة في هذه الآية، أيضا، تقرر ما تقدم، باستيفاء الأوجه العقلية الممكنة: فإما هداية، وإما ضلال: فالهداية لك والضلال عليك.
وإذا نكلنا عن نصرة دين الله، عز وجل، وركنا إلى الذين ظلموا فعقدنا معهم المعاهدات، وأبرمنا معهم الصفقات، وتخاذلنا عن نصرة إخواننا مداهنة لشذاذ الآفاق، فلن نعجز الله في الأرض: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).
وعودة إلى الآية فإن:
"أل" في "الحجر": عهدية ذهنية تشير إلى حجر بعينه كان موسى عليه الصلاة والسلام يحمله معه كما أشار أبو السعود، رحمه الله، إلى طرف من ذلك.
كلوا واشربوا: امتنان على التفصيل المتقدم في تلازم: المنة الربانية والتكليف الإلهي.
ولا تعثوا في الأرض مفسدين: فبفعل المأمور وترك المحظور، تصان النعمة، والمعصية إفساد في الأرض، إذ هي سبب كل نقمة، ومعدن كل نكبة، وزوال كل عزة، وحلول كل ذلة، فما أصاب أمة الإسلام اليوم من ذلة بالأمر الكوني القاهر إنما هو فرع على مخالفتها الأمر الشرعي النازل.
والحال: "مفسدين": مؤكدة لمعنى العثي فهو لا يكون إلا إفسادا. وإليه أشار أبو السعود، رحمه الله، بقوله: "العثْيُ أشدُّ الفساد فقيل لهم: لا تتمادَوْا في الفساد حال كونكم {مُفْسِدِينَ} "، وأشار إلى وجه آخر تكون الحال فيه مؤسسة لا مؤكدة فقال: "وقيل: إنما قيد به لأن العَثْيَ في الأصل مطلقُ التعدي وإن غلب في الفساد وقد يكون في غير الفساد كما في مقابلة الظالم المعتدي بفعله وقد يكون فيه صلاحٌ راجح كقتل الخَضِر عليه السلام للغلام وخرقِه للسفينة"، فيكون الحال: "مفسدين" بمنزلة القيد لمطلق العثي، فالمذموم منه: التعدي بالإفساد لا مطلق التعدي. وقد يتأيد هذا الوجه بما قرره أهل العلم من أن الكلام إذا دار بين التأسيس لمعنى جديد أو التوكيد لمعنى مستقر، فحمله على التأسيس أولى تكثيرا للفائدة، فيرد المعنى مطلقا توطئة للأذهان، ثم يرد عليه القيد فيزيده إيضاحا وبيانا.
ومع حلقة جديدة من سلسلة فسادهم في أنفسهم وإفسادهم في الأرض:
(وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ)
يا موسى: نداء للبعيد إما تعظيما لشأنه فقد كان عليه الصلاة والسلام مرهوب الجانب من قبل بني إسرائيل، وإما تذمرا من حالهم فيكون النداء للبعيد مئنة من تضجرهم وتكالبهم على شهواتهم، فهم يرفعون عقيرتهم على نبيهم سوء أدب وطلبا لخشاش الأرض الذي يشترك في تحصيله الآدمي والبهيم الأعجمي.
لن نصبر: نفي مشعر بنفاد صبرهم في المستقبل القريب، وهذا مما يرجح الاحتمال الثاني في النداء فهو نداء المتضجر لا المعظم الموقر.
فادع لنا ربك: سوء أدب في طلب الدعاء، مع كونهم قصروا ربوبية الله، عز وجل، على موسى عليه الصلاة والسلام، ولو أحسنوا الطلب لعمموها، لتشملهم، فمقام الداعي مقام تذلل وخضوع وإنما يظهر ذلك بإظهار فقر وذل العبودية في مقابل: غنى وعز الربوبية.
¥