تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

يقول القرطبي رحمه الله: "فإن قيل: هذا دليل على أنه قد يصح أن يقتلوا بالحق، ومعلوم أن الأنبياء معصومون من أن يصدر منهم ما يقتلون به.

قيل له: ليس كذلك، وإنما خرج هذا مخرج الصفة لقتلهم أنه ظُلْمٌ وليس بحق، فكان هذا تعظيما للشنعة عليهم، ومعلوم أنه لا يقتل نبي بحق، ولكن يقتل على الحق، فصرح قوله: "بغير الحق" عن شنعة الذنب ووضوحه، ولم يأت نبي قط بشيء يوجب قتله". اهـ

"الجامع لأحكام القرآن": (1/ 411).

ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون: عموم بعد خصوص، فعدد بعض أفراد عصيانهم من: كفر بالآيات وقتل للأنبياء ثم عمم إشارة إلى عظم جرائمهم فما ذكر غيض من فيض.

وتأمل عظم العقوبة، وهي من مقتضيات الربوبية القاهرة، في مقابل عظم الذنب، ولا يكون إلا بمخالفة الأمر الإلهي الشارع، فذلة في الحياة الدنيا، وإن أظهروا العزة فهي اسم بلا وصف، وإنما عزوا بذل أهل الحق لما فرطوا في نصرته.

وفي التنزيل: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ)

والغضب والذلة مقترنان في مواضع من التنزيل، فالذلة فرع عن غضب الجبار، عز وجل، فهي معلول والغضب علته، كما أن العزة فرع على رضاه، ورضاه لا يكون إلا بامتثال أمره الشرعي، فمن عصى الأمر الشرعي ناله من صفات الجلال ما يسوءه، ومن امتثله ناله من صفات الجمال ما يسره.

يقول ابن تيمية رحمه الله: "وَلِهَذَا كَانَ فِي كَلَامِ الشُّيُوخِ: النَّاسُ يَطْلُبُونَ الْعِزَّ بِأَبْوَابِ الْمُلُوكِ وَلَا يَجِدُونَهُ إلَّا فِي طَاعَةِ اللَّهِ. وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ: وَإِنْ هَمْلَجَتْ بِهِمْ الْبَرَاذِينُ وَطَقْطَقَتْ بِهِمْ ذُلُلُ الْبِغَالِ فَإِنَّ ذُلَّ الْمَعْصِيَةِ فِي رِقَابِهِمْ أَبَى اللَّهُ إلَّا أَنْ يُذِلَّ مَنْ عَصَاهُ". اهـ

فلا يغرنك ما ترى من سيارات المواكب السوداء، وأطقم الحراسة المحترفة لنفوس محترقة قد كساها ذل المعصية، وإن استترت بعز السلطان الزائل، وإنما عظم ذلك في نفوسنا لضعفها، فصارت النملة في أعيننا فيلا، وقد كان عمر الفاروق، رضي الله عنه، يحكم الدنيا في ثوب مرقع، فهابته الأكاسرة والقياصرة، وما احتاج لتلك الدروع الواقية.

والله أعلى وأعلم.

ـ[مهاجر]ــــــــ[04 - 01 - 2009, 09:12 ص]ـ

ثم انتقلت الآيات إلى تقرير مسألة الألوهية بذكر أصناف الناس:

قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ:

من آمن بالله واليوم الآخر: بدل فهو محط الفائدة فلن ينجو يوم الدين إلا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا.

وليس الإيمان بالله، إيمانا بلفظ اشتركت الألسن في نطقه، وإنما الإيمان به: إيمان بحقيقة ذاته القدسية المتصفة بصفات الكمال المطلق أزلا وأبدا، إيمان بكمال فعاله متعلق ربوبيته، إيمان برسالاته: تصديقا للخبر وامتثالا للأمر متعلق ألوهيته.

فتكون الآية من قبيل: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)، فالناجي هو من آمن بالله، منا أو منكم، وعند الله تجتمع الخصوم!!.

وإما أن يكون الكل ناجٍ، فيكون المراد بـ: "الذين هادوا والنصارى": من آمن قبل النسخ والتبديل، فيكون من العام المخصوص.

ويكون: "الصابئون" هم الذين خرجوا من ملة الكفر إلى ملة الإيمان، فالمقصود من اللفظ: حقيقته اللغوية المطلقة، لا العرفية المقيدة.

وعمل صالحا: إيجاز بحذف الموصوف "عملا" وإقامة الوصف مقامه. وفيه من فنون البلاغة: الإطناب بعطف الخاص على العام، فالعمل من الإيمان، وإنما خص بالذكر بعد العموم تنويها بشأنه.

فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ: الفاء رابطة لجملة الخبر، إذ في الموصول "من" معنى الشرطية على وزان: الذي يأتيني فله درهم، و "لهم": مقدم وحقه التأخير حصرا وتوكيدا، "عند ربهم": إشعار بعظم ذلك الأجر بنسبته إلى الرب جل وعلا.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير