ولا خوف عليهم: من آت، ولا هم يحزنون: على ماض، والضمير "هم": للتوكيد.
فاستوفت الآية القسمة الثنائية العقلية لأسباب الكدر، فهو إما على فائت أو من آت.
وفي الشرط المفهوم من الموصول من فنون البلاغة: الإخبار المراد به الإنشاء، فإن تعليق النجاة على الإيمان: خبر، ولازمه الأمر بذلك، إذ النجاة مطلب كل العقلاء بداهة. والعقلاء مع تفاوت مسالكهم قد أجمعوا على أن المطلوب الأعظم هو: دفع الهم وجلب الفرح، كما ذكر ذلك ابن حزم، رحمه الله، والأول أولى من الثاني، إذ: دفع المفاسدة مقدم على جلب المصالح، فالنعم، وإن بلغت ما بلغت من العظم والسبوغ، لا تصفوا مع الأكدار، ولذلك نصت الآية على دفع الأكدار الماضية والمتوقعة من باب النص على ما هو أولى.
وفي التنزيل: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ)، فقدم دفع الضر بإذهاب الحزن على جلب النعمة بالحلول في دار المقامة.
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ:
أخذنا ميثاقكم: تعظيم بالإسناد إلى ضمير الفاعلين: "نا" في: "أخذنا" يناسب مقام أخذ الميثاق.
و: "وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ": آية من آيات الربوبية القاهرة تحمل على امتثال الأمر الإلهي:
خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ: وفيه معنى الإنكار والتوبيخ لتأخرهم في الامتثال، و "ما": نص في العموم، فلا تأخذوا ما وافق هواكم وتردوا ما خالفه، على وزان: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)، و: (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ)، ولعل عالمنا الآن يعاني من هذه الازدواجية، فهو يكيل بمكيالين، مكيال يستوفي للظالم حقه، وآخر يبخس المظلوم حقه، فالاعتداء على الموحدين: دفاع عن النفس، ورد العدوان: إرهاب، وحتى ديقراطيتهم المزعومة: ديمقراطية انتقائية، إن أوصلت أذنابهم إلى سدة الحكم فأهلا، وإن أوصلت غيرهم فتبا إذ: لا ديمقراطية لأعداء الديمقراطية!!!. وفي التنزيل: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ).
"بقوة": حال مقيدة لعاملها، فليس المأمور به مجرد التناول، فكم عالم أوتي الحكمة ولم يأخذها بقوة. وما أكثر ما ابتلينا في زماننا هذا بـ: "الشياطين الخرس".
وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ: لازم الأخذ بقوة، فلا يكون العبد آخذا الميثاقَ إلا بذكر ما فيه، ولا يكون ذلك إلا بالإيمان به: تصديقا في الخبر وامتثالا في الطلب، فهو من عطف المتلازمين.
لعلكم تتقون: فالشريعة منحة ربانية شكرها: العمل بها تحصيلا للتقوى، فالرب هو: المشرع المبتلي بأمره ونهيه، والعبد هو: المبتلى بالكلمات الشرعيات: تصديقا وامتثالا، والكلمات الكونيات: تسليما وصبرا. فهذا قدره وذاك شرعه، وهذا مقتضى ربوبيته القاهرة، وذاك مقتضى ألوهيته الآمرة.
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ:
من بعد ذلك: أي من بعد ما تقدم ذكره على طريقة الإشارة إلى ما انقضى قريبا بإشارة البعيد، أو على كون المخاطبين هم اليهود زمن نزول الوحي، فعهدهم بأسلافهم بعيد، فقد انقضى ذلك الأمر من دهور بعيدة.
فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين:
امتنان بامتناع الخسران لوجود الفضل والرحمة منه، جل وعلا، وعطف الرحمة على الفضل من باب: عطف الخاص على العام، فالرحمة من الفضل.
ثم ذكرهم الله، عز وجل، بآية أخرى من آيات ربوبيته القاهرة:
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ:
¥