تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ: علة ما قبله. فما كانت تلك الآية الكونية الدالة على كمال الربوبية إلا توطئة لما بعدها من الأمر بإخلاص التأله، ولا يكون ذلك إلا بنقل صحيح وعقل صريح، فلا بد أن تصح آلة الفهم، قبل النظر في الأدلة، فما جدوى صحة القول، إن كان المخاطَب لا يعقل، وبم امتاز إذن عن الحيوان البهيم؟!!: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا)، ففي الآية: استفهام إنكاري إبطالي لما بعده، فلا سمع تدبر، وإن صحت الآلة، ولا عقل تفكر، وإن صحت الآلة، والعقل الصريح قسيم النقل الصحيح فلا يتعارضان إلا من ضعف في النقل، أو خلل في العقل، فلما فسدت قوى الإدراك عندهم، صاروا كالأنعام، فالقصر بأقوى أدواته: النفي والاستثناء، وهو قصر إضافي بالنظر إلى فساد علومهم وأعمالهم، مئنة من ذلك، والإضراب بـ: "بل" انتقالي من ذم إلى ذم أشد: و "هم": توكيد بذكر المسند إليه مع دلالة السياق عليه، أضل سبيلا من الأنعام، فهي أحسن حالا منهم، فقد سخرها الله، عز وجل، فهي تسبح بحمده، وينتفع بها العباد، بخلاف أولئك: فلا هم أدوا حق الرب بالتسبيح، ولا هم نفعوا الخلق، بل فسادهم قد ظهر في البر والبحر.

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ:

استعارة في الفعل "قست" من القسوة المادية إلى القسوة الحسية، فهي مكنية لدلالة الفعل على المشبه به: الكائن الصلب، تبعية، لوقوعها في الفعل "قست".

من بعد ذلك: إشارة إلى ما تقدم بإشارة البعيد تعظيما لشأنه، فكانت قسوة القلب من بعده أقبح، إذ ليس من علم كمن جهل، فالأول: مظنة الاعتبار، والثاني: مظنة الاغترار، وإنما العلم الخشية، فلم يزدهم العلم إلا قسوة ونفورا.

فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ: تشبيه مرسل مجمل، فتقدير الكلام: فهي كالحجارة في قسوتها.

أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً: إضراب انتقالي، بل هي أشد قسوة من الحجارة، وفي ذلك ترق إلى الأعلى لا ينفي حقيقة الأدنى.

وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ: "أل" في "الحجارة: جنسية تفيد الماهية، على وزان قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ).

وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ: من في "منه": لابتداء الغاية.

وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ:

من في "منها": جنسية بيانية، و "من" في "من خشية الله": سببية.

وما الله: إظهار في موضع الإضمار، وزيادة الباء مبنى من باب زيادة التوكيد معنى، وقد حذف عائد الصلة في "تعملون" إيجازا.

فالحجارة المسخرة تهبط من خشية الله، وقلوبهم أشد قسوة، وما ذلك الإعراض عن التأله لله، عز وجل، بأفعال العباد، إلا فرع عن فساد تصورهم لأسمائه وصفاته وأفعاله: متعلق ربوبيته القاهرة، فقد وصفوه بالعجز والفقر، ونسبوا إليه من أفعال السوء ما يترفع عنه آحاد البشر، فصاروا في فساد من العلم كبير أداهم إلى فساد في العمل، فالإرادة العملية فرع عن الرؤية العلمية، وصحة العمل من صحة العلم، فمن وصف ربه بغل اليد، والفقر، والبكاء ندما على خلق الإنسان، ومصارعة إسرائيل ............. إلخ، كيف يصح عمله، وكيف يوثق بعهده، وقد نكث عهد الرب، جل وعلا، وكيف يوصف بالمسالمة والموادعة، والله، عز وجل، يقول: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)، وكيف تقبض الأكف على كفه بحرارة تدل على برودة دم صاحبها، وفتور عقد الإيمان في صدره، وانحلال عرى الولاء والبراء في قلبه، وما موقف الحكومات العربية بلا استثناء، من محرقة غزة إلا مئنة من ذلك، فكثير منها يؤيد بلسان الحال إن لم يكن بلسان المقال شذاذ الآفاق من بني يهود، خوفا من الطرح الإسلامي الذي تتبناه قوى المقاومة، ولو كانت تتبنى الطرح الوطني البارد لما حوصرت وجوعت وأغلقت المعابر في وجهها خوفا من سريان العدوى إلى بقية دول الجوار؟!!!!.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير