وكل من صد الناس عن مساجد الله، بأن ضيق عليهم، حتى وصل الأمر في بعض البلاد الإسلامية إلى الصلاة بالكروت الممغنطة لئلا يصلي أحد في غير مسجده!!!، وأصدرت التعليمات بسرعة إغلاق المساجد بعد أداء الصلوات إذ هي: أوكار الإرهاب .......... إلخ من الدعاية الآثمة، كل من فعل ذلك فله نصيب من هذه الآية إذ العبرة بعموم لفظ الوعيد لا بخصوص سببه كما تقدم.
(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)
ولله المشرق والمغرب: تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر والتوكيد فضلا عن كون اللام: لام الملكية والاستحقاق، فهو المستحق، جل وعلا، لكمال ربوبيته، ملك المشرق والمغرب، وقد يقال: سبب النزول يشهد لذلك إذ نزلت الآية بشأن توجه المصلين في السفر، فيقال: وهو المستحق شرعا: كمال التوجه إليه سواء علمت القبلة أو جهلت، فيكون استحقاقه كمال التأله بكمال التوجه فرعا على كمال ربوبيته جل وعلا، فإن من ملك المشرق والمغرب لم يصح في الأذهان أن يتوجه الداعون إلى غيره من الكائنات، فهو الغني بذاته المغني لغيره، وما عداه فقير فقرا ذاتيا لا ينفك عنه، فكيف يطلب الفقير من فقير مثله ويدع الغني؟!!.
و "أل" في "المشرق والمغرب": جنسية استغراقية لعموم ما دخلت عليه، فتشمل كل المشارق والمغارب باعتبار تعدد المطالع، كما في قوله تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ)
فأينما تولوا فثم وجه الله:
شرط يفيد العموم المؤكد بـ: "ما" المزيدة، فكل الجهات ملكه، جل وعلا، والجملة: خبر أريد به الإنشاء، فالمعنى كما ذكر القرطبي رحمه الله: ولوا وجوهكم جهة الله، عز وجل، في أي مكان كنتم، وهذا أصل مطرد في جمل الشرط، فإن معنى الإنشاء فيها معتبر ولو كانت خبرية المبنى، فقد يكون المعنى:
أمرا كما في هذه الآية.
أو: زجرا كما في قوله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)
أو حضا وإلهابا كما في قوله تعالى: (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)
أو توبيخا كما في قوله تعالى: (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، وقوله تعالى: (قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
وَجْهُ اللَّهِ: من جعلها من آيات الصفات فالإضافة عنده: إضافة صفة إلى موصوف، فالله، عز وجل، متصف بصفة الوجه على كيفية تليق بكمال ذاته القدسية لا تدركها عقول البشر الناقصة، إذ كيف يدرك الناقص الكامل؟!!، فهو، جل وعلا، لا تطيق الأبصار رؤيته في الدنيا، ويوم القيامة يكتسب المؤمنون كمالا يصيرهم أهلا للنظر إلى وجهه الكريم، فيتحقق لهم كمال اللذة العلمية برؤية أشرف المعلومات، ومع ذلك يظل معنى النقص البشري في مقابل الكمال الإلهي حاضرا، فالمؤمنون يرونه رؤية بصر لا إحاطة، إذ من ذا الذي يحيط به، جل وعلا، علما، وإن بلغ من الكمال ما بلغ؟!!.
ومن لم يجعلها من آيات الصفات: فالإضافة عنده: إضافة مخلوق إلى خالق، على معنى الجهة، فتقدير الكلام: فأينما تولوا فثم جهة القبلة التي أمرتم بالتوجه إليها، فمن خفيت عليه القبلة، واجتهد في معرفة جهتها، ثم صلى بحسب ما أداه إليه اجتهاده، فقد صلى إلى القبلة التي أمر بالتوجه إليها، وإن لم تكن هي جهة القبلة في نفس الأمر، فالمجتهد يعمل بما أداه إليه اجتهاده حتى يظهر له خلافه، وهذا من رحمة دين الإسلام وسعة أحكامه، وواقعيته في تناول النوازل بعيدا عن التسيب من جهة والتكلف والتنطع من جهة أخرى، فلا يتساهل المصلي ويتوجه إلى أي جهة ابتداء محتجا بظاهر هذه الآية، ولا يتكلف ويضيق على نفسه فلا يصلي حتى يتيقن جهة القبلة تحديدا، بل يجتهد قدر استطاعته ويصلي إلى الجهة التي غلب على ظنه أنها جهة القبلة، فالظن الراجح كاف في مثل تلك الأحوال.
إن الله واسع عليم: تذييل يناسب السياق، فالله، عز وجل: واسع الذات، لا يدرك كنه ذاته القدسية إلا هو، واسع الصفات، فمن رحمته الواسعة أن خفف عن المسافر إذا جهل القبلة كما تقدم، وهو: "عليم" بما في قلوب عباده، فيعلم من أخلص وتحرى في طلب الحق، ومنه القبلة في هذا السياق، ممن فرط فلم يتجشم عناء الاجتهاد أو السؤال إن تيسر له.
والله أعلى وأعلم.
¥