كل: عموم آخر يناسب المقام، وفي الكلام إيجاز بالحذف، إذ التنوين في "كل" عوض محذوف تقديره: شيء، وقدره القرطبي، رحمه الله، بضمير الغائب "هم"، فتقدير الكلام على ذلك: كلهم له قانتون، فكل شيء سواه خاضع له قانت، فأمره الكوني نافذ، وأمره الشرعي حاكم، وإن أعرض عنه الطواغيت، فإنه لا يقدح في كمال ربوبيته، إذ ما أعرضوا عنه إلا بقدره، فخرجوا من قدر إلى قدر، وإنما القدح في كمال تألههم إلى الله، عز وجل، بأفعالهم، فإن أقبلوا فقد وحدوا الله، عز وجل، بأفعالهم، فرعا على توحيده بأفعاله، وإن أعرضوا فقد أشركوا به بقدر إعراضهم عن وحيه.
وفي تقديم الجار والمجرور: "له": ما قيل آنفا من الحصر والتوكيد.
والإطناب بنفي هذه التهمة المستشنعة غرض مقصود في هذا السياق، فقد أطنب جل وعلا:
بالسلب في: التسبيح فهو تنزيه عن كل مقالات السوء التي افتروها، وأول التوحيد: نفي بـ: "لا إله"، فقبل التحلية بأوصاف الكمال: تخلية من أوصاف النقص، (مع التحفظ على المفهوم الصوفي لمصطلحي: التخلية والتحلية)، وقبل الحمد بكل جميل، تسبيح وتنزيه عن كل قبيح، فنفي السوء، وإن كان مقصودا لغيره، إلا أنه سابق الإثبات، فهو الموطئ له، وفي التنزيل: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ)، فقدم الكفر بالطاغوت سلبا على الإيمان بالله إيجابا.
ثم ثنى بالإيجاب، وهو المقصود لذاته في هذا المقام، فجاء بأوصاف: (له ما في السماوات .............. )، و: (كل له قانتون)، ثم أطنب في أوصاف الكمال فقال:
(بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ):
فجاء بصيغة المبالغة: "بديع" إمعانا في وصف الكمال، وحذف المبتدأ، لدلالة السياق عليه، فتقدير الكلام: هو بديع السماوات، ومبنى الكتاب العزيز على الإيجاز والإعجاز، فما دل السياق عليه استغني عن ذكره، وتوجه السياق إلى محط الفائدة مباشرة، وهي: وصف الله، عز وجل، بإبداع السماوات والأرض، من غير مثال سابق، وفي ذلك تنبيه على كمال ربوبيته، وهو محل النزاع مع أولئك الضلال الذين نسبوا له الصاحبة والولد، فقدحوا في ربوبيته، فهذا دليل ثالث على استغنائه عن خلقه، إذ هو الذي أبدعهم وصورهم وأمدهم بأسباب الحياة: فأوجدهم من عدم، وأعدهم لقبول أسباب الحياة وهيأ لهم معادن الرزق، فكيف يفتقر بعد ذلك إلى اتخاذ ولد منهم؟!!.
ففي الآيات حجاج عقلي بديع، إذ نفي أحد المتلازمين نفي لكليهما، فوصف الولد ووصف الفقر متلازمان، فمتى ارتفع أحدهما ارتفع الآخر، ومتى وجب أحدهما وجب الآخر، فكيف تدعون في إلهكم الكمال والغنى، وأنتم تصفونه بالولد ولازمه: النقص والفقر، أليس هذا تفريقا بين متماثلين بإثبات أحدهما ونفي الآخر، وتسوية بين مختلفين، بإثبات الشيء ونقيضه؟!!.
وفيها من قياس الأولى ما يدحض شبهة الخصم، فإن من خلق هذا الكون ابتداء لا يفتقر إليه من باب أولى، فالصانع لا يفتقر إلى صنعته، بل الصنعة هي التي لا تنفك عن فقر واحتياج إليه، وفي التنزيل: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)، فلم يخلق الخلق ليأنس بهم من وحشة، أو ليستكثر بهم من قلة، أو ليتقوى بهم من ضعف، أو ليستطعمهم من جوع، بل هو القيوم: القائم بذاته فلا يفتقر إلى سواه، المقيم لغيره فكل ما عداه مفتقر إليه.
وإذا قضى أمرا: "أمرا": نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم، أي: إذا قضى أمرا، أي أمر، فلا راد لقضائه، وذلك أيضا مئنة من كمال غناه، فلا زال الإطناب بذكر أوصاف الكمال في مقابل ما ادعوه من وصف النقص.
فإنما يقول له كن فيكون: تعقيب بالفاء يدل على الفورية فقضاؤه نافذ، وفيه أيضا من مجاز الحذف: حذف المبتدأ، "هو"، فتقدير الكلام: فهو يكون، أو: فإنه يكون كما أشار إلى ذلك القرطبي رحمه الله.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[17 - 01 - 2009, 08:14 ص]ـ
¥