ومن قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ)
الذين لا يعلمون: تعليق للحكم على الوصف الذي اشتق منه الفعل: "يعلمون"، ففي الكلام إجمال في الموصول، بينته جملة الصلة التي أفادت وصفهم بعدم العلم، وهذا أبلغ في الذم من ذكر أعيانهم أو ألقابهم، كأن يقال: وقال اليهود أو النصارى أو مشركو العرب ......... إلخ، فوصف عدم العلم يعمهم مع ما فيه من ذم لهم إذ نفي العلم يستلزم إثبات نقيضه من الجهل.
والقاعدة في البيان بعد الإجمال: تشويق المخاطب إلى ما بعد اللفظ المجمل، إذ النفس تشتاق إلى كشف غموض ما خفي علمه عنها.
لولا يكلمنا: حض يدل على سوء أدب منهم، بالإلحاح على طلب ما لا ينفعهم في دين أو دنيا، وإنما محض تعنت.
آية: تنكير يفيد التعظيم فهم يطلبون آيات كونية خارقة لتستيقن قلوبهم، بزعمهم، وكذبوا فما اقترحوها إلا تعجيزا.
كذلك قال الذين من قبلهم: فليس في كلامهم جديد معنى، وإن اختلف المبنى.
تشابهت قلوبهم: علة ما قبله، إذ التشابه في الباطن مظنة التشابه في الظاهر من الأقوال والأفعال، والسكنات والحركات، فالأصل واحد وإن تعددت الفروع.
وتأمل حال أمة الإسلام في زماننا تجد قلوب كثير منا قد شابهت قلوب يهود ومن والاهم من النصارى، فانعكس الباطن على الظاهر، وسرى إلينا فسادهم العلمي والعملي مع تأصل العداوة بيننا وبينهم.
قد بينا الآيات لقوم يوقنون: فالبيان النافع: بيان اللفظ والمعنى، بيان العلم والعمل لا يحصل إلا للموقنين.
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ:
تسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ببيان مهمته، فهو الرسول المبعوث بالحق بشيرا ونذيرا، وفي تعدد الأحوال: "بالحق"، "بشيرا" و "نذيرا" و "وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ"، إطناب يقتضيه المقام، فمراد المتكلم بيان وظائف الرسول لئلا يحمل نفسه ما لا تحتمل، فالحال: كما قرر النحاة: قيد لعاملها وصف لصاحبها، وكلما تعددت الأوصاف زال إبهام الموصوف، فالآية قد ذكرت أوصاف الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم تحديدا، فما أمر بهداية الناس هداية التوفيق وإنما: (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ).
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ:
ولن ترضى: نفي تسلط على المصدر الكامن في الفعل "ترضى"، فأفاد العموم فلن يرضوا عن المسلمين أي رضاً حتى يخرجوا من ملة الإسلام ويدخلوا في مللهم.
فليربع العلمانيون على أنفسهم، فلن يحصلوا على وسام الاعتدال والوسطية حتى ينبذوا الإسلام جملة وتفصيلا، وربما فاتهم ذلك فلن يثق اليهود والنصارى فيمن نبذ ملته من أجل سواد عيونهم، فمن لم يحترم نفسه لم يحترمه أحد.
اليهود ولا النصارى: بوصفهم أكبر ملتين معاديتين للإسلام مع ادعائهما الانتساب إلى الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فكيف يصح في الأذهان ولاء الخليل دون أوليائه من النبي والذين آمنوا معه، و: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ).
¥