فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون: توكيد بالقصر بـ: النفي والاستثناء، ونون التوكيد المثقلة في "تموتن"، والإطلاق بلا ذكر الحال: "وأنتم مسلمون": تكليف بما لا يطاق، فالموت قدر كوني لا راد له، فصار الحال في هذا السياق مع كونه فضلة باعتبار أصل الوضع في اللغة: حالا مؤسسة، بل عمدة في بيان المعنى المراد، فالنهي عن الموت مقيد بالموت على غير ملة الإسلام وذلك مما يصح تكليف العبد به شرعا.
وفي أسلوب القصر إيجاز بليغ، أشار إليه القرطبي، رحمه الله، بقوله:
" (فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون): إيجاز بليغ.
والمعنى: الزموا الإسلام ودوموا عليه ولا تفارقوه حتى تموتوا.
فأتى بلفظ موجز يتضمن المقصود، ويتضمن وعظا وتذكيرا بالموت، وذلك أن المرء يتحقق أنه يموت ولا يدري متى، فإذا أمر بأمر لا يأتيه الموت إلا وهو عليه، فقد توجه الخطاب من وقت الأمر دائبا لازما". اهـ
"الجامع لأحكام القرآن"، (2/ 122).
فجمع بين الموعظة بالتذكير بالموت، والأمر بلزوم الدين حتى مجيء الأجل.
والأصوليون يقولون: الأمر لا يقتضي التكرار بمادته، فيخرج المكلف من عهدته بامتثاله مرة واحدة تتحقق بها ماهيته خارج الذهن، بخلاف النهي فإنه يقتضي التكرار بمادته، ولكن القرينة: سياقية كانت أو خارجية قد ترجح دلالة الأمر على التكرار، كما في هذا الموضع، إذ الأمر بالتزام الإسلام حتى الموت يقتضي الثبوت والدوام عليه إلى آخر العمر.
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
حضر يعقوب الموت:
مجاز عند من يقول به، إذ أطلق الموت وأراد مقدماته من الاحتضار، إذ لو حضره الموت حقيقة لما استطاع التوصية.
وقد يقال بأن في الكلام: استعارة الحضور من الزائر إلى الموت.
وقدم المفعول على الفاعل: عناية بشأنه وتنويها بذكره، وفي تقديم الفضلة على العمدة نوع توكيد.
ما تعبدون: لا من تعبدون لأنه أراد صفة المعبود الحق جل وعلا لا اسمه.
ولذلك جاء الجواب بوصف الألوهية، وفي عطف "آبائك": عطف عام على خاص، فأضافوا الإله إلى أبيهم: ألوهية خاصة، ثم أضافوه إلى آبائه ألوهية أعم، ولكنها ليست عامة: العموم الاصطلاحي المعهود الذي يشمل كل أفراده، فالعموم والخصوص درجات كما قرر أهل العلم.
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ: بيان بعد إجمال المبدل منه: "آبائك".
إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ: حال موطئة لما بعدها فالمقصود أصالة: إثبات وحدانية الله عز وجل.
ونحن له مسلمون: توكيد باسمية الجملة، وتقديم ما حقه التأخير "له".
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ:
إشارة البعيد باعتبار الزمن، أو على طريقة الإشارة بالبعيد لما انقضى ذكره قريبا.
لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ: تقديم ما حقه التأخير: "لها" يفيد الحصر والتوكيد كما تقرر مرارا، وعموم "ما" يدل على إحصاء كل الأقوال والأفعال: صغيرها وكبيرها وفي التنزيل: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)، وفي الكلام إيجاز بحذف عائد الصلة فتقدير الكلام: لها ما كسبته ولكم ما كسبتموه، وفي الآية: جناس بين: "لها" و "لكم"، و: "كسبت" و "كسبتم"، وهو يزيد المعنى بيانا وبهاء.
ولا تسألون: حذف الفاعل للعلم به، فتقدير الكلام: ولا يسألكم الله.
عما كانوا يعملون: إيجاز بحذف عائد الصلة.
فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ:
إنشاء الأمر بالإيمان بتعليق وعد الهداية عليه، ولكنه مقيد بـ: "مثل ما آمنتم به"، وزيادة "مثل" من باب زيادة المبنى زيادة في المعنى، أو يقال لا زيادة هنا أصلا على طريقة: مثلك لا يفعل ذلك، والمقصود: المخاطب، فتقدير الكلام: فإن آمنوا بما آمنتم به. وهو أولى لأن الأصل عدم الحذف.
¥