"قَالَ اِبْن مَالِك فِيهِ اِسْتِعْمَال " إِذْ " فِي الْمُسْتَقْبَل كَـ "إِذَا"، وَهُوَ صَحِيح، وَغَفَلَ عَنْهُ أَكْثَر النُّحَاة، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْم الْحَسْرَة إِذْ قُضِيَ الْأَمْر) هَكَذَا ذَكَرَهُ اِبْن مَالِك وَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ غَيْر وَاحِد. وَتَعَقَّبَهُ شَيْخنَا شَيْخ الْإِسْلَام بِأَنَّ النُّحَاة لَمْ يَغْفُلُوهُ بَلْ مَنَعُوا وُرُوده، وَأَوَّلُوا مَا ظَاهِره ذَلِكَ وَقَالُوا فِي مِثْل هَذَا: اسْتَعْمَلَ الصِّيغَة الدَّالَّة عَلَى الْمُضِيّ لِتَحَقُّقِ وُقُوعه فَأَنْزَلُوهُ مَنْزِلَته، وَيُقَوِّي ذَلِكَ هُنَا أَنَّ فِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ فِي التَّعْبِير "حِين يُخْرِجك قَوْمك" وَعِنْد التَّحْقِيق مَا اِدَّعَاهُ اِبْن مَالِك فِيهِ اِرْتِكَاب مَجَاز، وَمَا ذَكَرَهُ غَيْره فِيهِ اِرْتِكَاب مَجَاز، وَمَجَازهمْ أَوْلَى، لِمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ إِيقَاع الْمُسْتَقْبَل فِي صُورَة الْمُضِيّ تَحْقِيقًا لِوُقُوعِهِ أَوْ اِسْتِحْضَارًا لِلصُّورَةِ الْآتِيَة فِي هَذِهِ دُون تِلْكَ مَعَ وُجُوده فِي أَفْصَح الْكَلَام، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِمَنْعِ الْوُرُود وُرُودًا مَحْمُولًا عَلَى حَقِيقَة الْحَال لَا عَلَى تَأْوِيل الِاسْتِقْبَال".
ومثله قوله تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)، فالمعنى: سيأتي، ولكنه لما كان قريبا محقق الوقوع جاء بالصيغة الماضي، فتأويل الماضي بالمضارع هنا تأويل صحيح دل عليه نفس السياق: (فلا تستعجلوه).
يقول أبو السعود رحمه الله: "وإتيانُه عبارةٌ عن دنوّه واقترابِه على طريقة نظمِ المتوقَّعِ في سلك الواقع، أو عن إتيان مباديه القريبةِ على نهج إسنادِ حال الأسبابِ إلى المسبَّبات. وأياً ما كان ففيه تنبيهٌ على كمال قربِه من الوقوع واتصالِه".
فإما أن يكون تنزيلا للمستقبل منزلة الماضي، وإما أن يكون المعنى: أتت مقدماته، وهي بمنزلة السبب، فيكون قد أطلق السبب وأراد المسبب.
ومنه قوله تعالى: (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ): مع أن زمان غلهم لم يأت بعد، ولكنه نزله منزلة الماضي إمعانا في التوكيد على حصوله، والتوكيد في هذا السياق يناسب إنكارهم، فمن اشتد إنكاره حسن التوكيد في خطابه.
وقوله تعالى: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)، والنداء مستقبل لم يقع بعد.
وقوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا)، فالحساب والعذاب لم يأتيا بعد، ولكنه ذكرهما بصيغة الماضي: "فحاسبناها" و "عذبناها" إمعانا في توكيد وقوعهما.
وقوله تعالى: (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ)، والمساءة لم تقع بعد.
وحديث أنس، رضي الله عنه، مرفوعا: "إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ لَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لِأَحَدٍ فَافْعَلْ ثُمَّ قَالَ لِي يَا بُنَيَّ وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ"، أي: سيكون معي في الجنة ولكنه ذكره بصيغة الماضي إمعانا في الوعد الذي يحمل المخاطب على الامتثال فهو خبر لفظا إنشاء معنى إذ أراد به إنشاء الأمر بالامتثال.
وإزاء هذا الثراء اللغوي الذي امتازت به لغة العرب عموما، ولغة التنزيل خصوصا، يخرج شروش باكتشافه العظيم خطأً لغويا في الكتاب العزيز لم تكتشفه قريش التي ألقت إليها الفصاحة بمقاليدها!!!!.
¥