وبعد ذلك أشار الطبري، رحمه الله، إلى الرأي المشهور في الآية محل البحث وهو أن النصب فيها: على الاختصاص بالمدح، وبالرغم ذلك، لم يرجح الطبري هذا الرأي، وإنما رجح الرأي القائل بأن تقدير الكلام: والمؤمنون منهم يؤمنون بما أنزل إليك يا محمد من الكتاب وبما أنزل من قبلك من كتبي وبالملائكة الذين يقيمون الصلاة، فيكون المقصود بـ "المقيمين الصلاة": الملائكة، فالموصوفون في الآية يؤمنون بالكتاب كله وبالملائكة الذين يقيمون الصلاة.
يقول الطبري رحمه الله:
"وأولى الأقوال عندي بالصواب، أن يكون المقيمين في موضع خفض نسقاً على «ما» التي في قوله: {بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} وأن يوجه معنى المقيمين الصلاة إلى الملائكة، فيكون تأويل الكلام: والمؤمنون منهم يؤمنون بما أنزل إليك يا محمد من الكتاب وبما أنزل من قبلك من كتبي وبالملائكة الذين يقيمون الصلاة ثم يرجع إلى صفة الراسخين في العلم فيقول: لكن الراسخون في العلم منهم، والمؤمنون بالكتب، والمؤتون الزكاة، والمؤمنون بالله واليوم الآخر". اهـ
وأما الحافظ ابن كثير، رحمه الله، فيقول في تفسيره:
وقوله: {وَ?لْمُقِيمِينَ ?لصَّلَو?ةَ} هكذا هو في جميع مصاحف الأئمة، وكذا هو في مصحف أبي بن كعب، وذكر ابن جرير أنها في مصحف ابن مسعود: والمقيمون الصلاة، قال: والصحيح قراءة الجميع، ثم رد على من زعم أن ذلك من غلط الكتاب، ثم ذكر اختلاف الناس، فقال بعضهم: هو منصوب على المدح، كما جاء في قوله تعالى:
{وَ?لْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَـ?هَدُواْ وَ?لصَّابِرِينَ فِى ?لْبَأْسَآءِ و?لضَّرَّاءِ وَحِينَ ?لْبَأْسِ}
[البقرة: 177]، قال: وهذا سائغ في كلام العرب، كما قال الشاعر:
لا يبعدنْ قومي الذين هُمو ******* سُمُّ العُداةِ وآفَةُ الجزرِ
النازلين بكلِّ مُعْتَرَكٍ ******* والطيبون مَعاقِدَ الأُزْرِ
فلو كان الكلام على الإتباع، لقال: النازلون، ولكنه قطع إلى "النازلين".
وقال آخرون: هو مخفوض عطفاً على قوله: {بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} يعني: وبالمقيمين الصلاة، وكأنه يقول: وبإقامة الصلاة، أي: يعترفون بوجوبها وكتابتها عليهم، أو أن المراد بالمقيمين الصلاة: الملائكة، وهذا اختيار ابن جرير". اهـ بتصرف
فإما أن يكون المقصود الملائكة: مقيمي الصلاة، وهذا اختيار ابن جرير الطبري، رحمه الله، كما تقدم، أو الصلاة نفسها.
ويقول الزمخشري، غفر الله له، في "كشافه":
"و {وَالمقيمين} نصب على المدح لبيان فضل الصلاة، وهو باب واسع. وقد كسره سيبويه على أمثلة وشواهد. ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحناً في خط المصحف. وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان، وغبي عليه أنّ السابقين الأوّلين الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام وذبّ المطاعن عنه، من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدّها من بعدهم وخرقاً يرفوه من يلحق بهم. وقيل: هو عطف على {بِمآ أُنزَلَ إِلَيْكَ} أي يؤمنون بالكتاب وبالمقيمين الصلاة وهم الأنبياء. وفي مصحف عبد الله: «والمقيمون»، بالواو. وهي قراءة مالك بن دينار، والجحدري، وعيسى الثقفي". اهـ
فالأولون كانوا أكثر غيرة على القرآن منا فما الذي منعهم من إقامة هذا اللحن المزعوم؟!!!.
والزمخشري يضيف هنا معنى جديدا وهو الإيمان بالأنبياء، فهم المعنيون بقوله تعالى: (والمقيمين الصلاة).
ويقول القرطبي، رحمه الله، في "جامعه":
"واختلف في نصبه على أقوال ستة، أصحها قول سيبويه بأنه نصِب على المدح، أي وأعني: المقيمين، قال سيبويه: هذا باب ما ينتصب على التعظيم ومن ذلك «والمُقِيمِين الصَّلاَةَ» وأنشد:
وكل قومٍ أطاعوا أمر سيِدهم ******* إلا نميرا أطاعت أمر غاويها
ويروى أمر مرشدهم.
الظّاعِنين ولما يُظْعِنُوا أحداً ******* والقائِلُونَ لِمَنْ دارٌ نُخَلِّيها
فلو كان الكلام على الإتباع لقال: "الظاعنون"، ولكنه قطع إلى "الظاعنين".
وينقل عن القُشيري قوله: وهذا المسلك باطل، لأن الذين جمعوا الكتاب كانوا قدوة في اللغة، فلا يظنّ بهم أنهم يدرجون في القرآن ما لم ينزل.
فلا يتصور اللحن من قوم كلامهم في حد ذاته حجة.
ويرجح القرطبي، رحمه الله، القطع إذ يقول:
"وأصح هذه الأقوال قول سيبويه وهو قول الخليل، أي القطع على الاختصاص، وقول الكسائي، أي أن المقصود هم: الملائكة، هو اختيار القَفّال والطبري، والله أعلم".
ويقول أبو حيان، رحمه الله، في "بحره المحيط":
"وانتصب المقيمين على المدح، وارتفع والمؤتون أيضاً على إضمار: وهم على سبيل القطع إلى الرفع، ..................... ، وهذا القطع لبيان فضل الصلاة والزكاة، فكثر الوصف بأن جعل في جمل".
والله أعلى وأعلم.
¥