"فإذا كان، (أي: المسيح عليه السلام)، تجسد من روح القدس ومريم فإن كان روح القدس هو حياة الله كما زعمتم فيكون المسيح كلمة الله وحياته، (فاجتمع فيه الأقنومان)، فيكون لاهوته أقنومين من الأقانيم الثلاثة وعندهم إنما هو أقنوم الكلمة فقط". اهـ
بتصرف من: "الجواب الصحيح"، (2/ 136).
وقياس الأقنومين على شعاع الشمس وحرارته كما ذهب إلى ذلك بعض علماء النصرانية: قياس مع الفارق إذ قيست فيه الذوات المستقلة على المعاني المقيدة بذوات متصفة بها على التفصيل المتقدم.
ومن ذلك أيضا:
قوله تعالى: (وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا).
فابتداء تلك الدرجات من الله، عز وجل، فهو الذي تفضل بها على عباده المجاهدين، فمنه صدرت: صدور المخلوق من خالقه، إذ لا يتصور أن تكون تلك الدرجات جزءا من ذاته القدسية، فإنها منزهة عن الحلول في مخلوق، وعن حلول مخلوق فيها، وتلك الدرجات مَحَالٌ لعباده، فلا يتصور حلولهم في شيء من ذاته القدسية، وإنما المراد حلولهم في درجات من الجنان المخلوقة وعدهم الله، عز وجل، إياها، فهي صادرة منه، جل وعلا، صدور المخلوق من خالقه، فبقضائه الكوني النافذ وجدت، وإلى طرف من ذلك أشار أبو السعود، رحمه الله، بقوله:
"وقوله تعالى: {مِنْهُ} متعلق بمحذوف وقعَ صفةً لدرجاتٍ دالةً على فخامتها وجلالةِ قدْرِها أي درجاتٍ كائنةً منه تعالى. قال ابن محيريز: هي سبعون درجةً ما بين كلِّ درجتين عدْوُ الفرسِ الجوادِ المُضْمرِ سبعين خريفاً. وقال السدي: هي سبعُمائةِ درجةٍ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ في الجنةِ مائةَ درجةٍ أعدها الله تعالى للمجاهدين في سبيله ما بين الدرجتين كما بين السماءِ والأرضِ» ". اهـ
فهي درجات في الجنة، والجنة مخلوقة فيكون ما تضمنته مخلوقا بالتبع.
ومنه أيضا:
قوله تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ)، فهي، أيضا، صادرة منه صدور المخلوق من خالقه، فبكلماته الكونيات كانت، فليس المسخر في السماء والأرض بعضا من الله، عز وجل، إلا على قول أهل الاتحاد الذين فاقت مقالتهم مقالة النصارى فحشا، فقالوا باتحاد الذات القدسية بكل الكائنات وإن سفلت، ولهم في ذلك أقوال وأشعار تدل على كفر وزندقة قائلها وناظمها.
ومنه قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ذبح كبش الأضحية:
"اللهم هذا منك ولك".
فهذا منك: لأنك خلقته لا لأنه جزء منك، فابتداء غاية خلقه منك، لا أنه جزء من ذاتك القدسية فذلك أيضا من المحال الذاتي.
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً)
فابتداء غاية خلق البشر من نفس آدم عليه السلام، وابتداء غاية خلق حواء عليها السلام من آدم، وقد يقال بأن "من" في: "وخلق منها" للتبعيض، أيضا، فقد خلقت من ضلعه، وضلعه بعضه، وابتداء غاية خلق ذريتهما: "منهما".
وقول القائل من الأنصار رضي الله عنهم: (مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ)
فـ: "منا": لابتداء الغاية، فابتداء غاية الإمارة من قبيلنا: قبيل الأنصار، وكذلك من المهاجرين، والأليق بـ: "من" في هذا السياق، وإن احتملت ابتداء الغاية، الأليق بها أن تكون جنسية بيانية، أي: من جنسنا أو فصيلنا أمير ومنكم أمير، وقد يقال بأنها للتبعيض، إذ الأمير فرد من الجماعة فهو بعضها، ولا مانع من حمل اللفظ على أكثر من معنى إن لم يقع التعارض بينها.
والغرض مما سبق بيان اطراد هذا المعنى وجريانه على لسان العرب، فكلما كثرت الشواهد ازداد الأمر بيانا، وإذا ما جمع إلى ما سبق: أدلة عبودية المسيح عليه السلام، ازداد الأمر وضوحا، وازدادت الشبهة اضمحلالا، فيكون الاستقراء من وجهين:
من وجه مثبت لاطراد استعمال "من" بهذا المعنى.
ووجه ناف للدعوى التي تمسك بها من تمسك من النصارى استنادا إلى لفظ متشابه.
&&&&&
¥