وأولاها بالحكم، لنزول الوحي بيانا له، فلا يخصص ذكره العموم كما قرر أهل الأصول.
و: "أل" في: "الشهر الحرام": جنسية استغراقية تفيد عموم ما دخلت عليه، فالسؤال عن القتال في الأشهر الحرم، لا شهر بعينه، وتلك جهة عموم أخرى، فليس السؤال عن القتال في رجب الفرد الذي وقعت في أول أيامه تلك الحادثة، فهي على وزان "أل" في قوله تعالى: (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ)، أي: الأطفال.
قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ: مبتدأ خص بمتعلقه فساغ الابتداء به لما في التخصيص من نوع توضيح يرفع الإبهام ويسوغ الابتداء، وإن لم يحصل به التعريف، فهو كبير ولكن ما ارتكبتموه في حق الموحدين من الصد عن سبيل الله، والإخراج من المسجد الحرام، أكبر عند الله، فأفاد الجناس بين: "كبير"، و: "أكبر" مع الاستدراك عليهم بالإبطال لدعواهم بمعارضتها بدعوى أعظم، أفاد بيانا للمعنى المراد، فإن كل شر في المسلمين فهو في غيرهم أعظم، وكل خير في غيرهم، فهو فيهم أعظم، فلم تضمن العصمة لآحادهم، وإن ضمنت لجماعتهم، فلا يخرج الحق عنها.
وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ: "أل" عهدية تشير إلى فتنة الدين خصوصا، فتلك أعظم من القتل، إذ هلاك الأرواح أعظم من هلاك الأبدان.
وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا: سنة كونية جارية، نشهد في كل زمان صورا لها، ذات معنى واحد، وإن اختلفت مبانيها، فبالسلاح تارة، وبالشُبَهِ أخرى، وبالقمح ثالثة!!!!.
وأضاف الدين إليهم حضا على التمسك به في وجه تلك الغارة الشرسة على وزان: (لَا تَغْلِبَنَّكُمْ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ الْمَغْرِبِ)، فذلك أبلغ في العناية، يقول ابن دقيق العيد رحمه الله:
"فإن فيه زيادة، أي قوله: "صَلَاتِكُمْ"، ألا ترى أن لو قلنا: لا تغلبن على مالك: كان أشد تنفيرا من قولنا: لا تغلبن على مال أو على المال؟ لدلالة الإضافة على الاختصاص به". اهـ
"إحكام الأحكام"، ص182.
إذ النفس تغار لمملوكها فتحوطه بالعناية وتذب عنه الجناية.
وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ: شرط سيق مساق الوعيد مقيدا بحال الموت على الكفران، عياذا بالرحمن، ففيه بدلالة المفهوم من الحض على الاستمساك بالوحي المنزل والشرع المسطر ما فيه.
فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ:
إطناب في الوعيد زجرا، فأشار إليهم بإشارة البعيد تحقيرا، وأخبر عن بطلان أعمالهم في الدارين تعميما، وفي ذلك من النكاية والمساءة ما فيه، فلا أولى ولا آخرة: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)، فعيش نكد ومصير أنكد ثم فرع على ذلك: الخلود في النار نتيجة، وأعاد المسند إليه زيادة في المساءة على ما تقرر، فهم المخصوصون بذلك الوعيد تحقيقا لا غيرهم، وأكد ذلك بنسبتهم إلى دار العذاب نسبة الصاحب الملازم، واسمية الجملة وتعريف جزأيها، وضمير الفصل المؤكد وتقديم ما حقه التأخير: فيها"، فأي نكاية بعد ذلك؟!!.
فيكون عطف الجزاء الأخروي على فساد العمل الدنيوي من باب: عطف المسَبَب على سببه، وفي ذلك إقامة للحجة ببرهان عقلي دامغ، كما استعمل قياس الأولى في صدر الآية، فإن ما ارتكبوه في حق الموحدين أولى بالشجب والاستنكار!!!، مما ارتكبه الموحدون، فإذا صح توجه الإنكار إلى الآخرين، فللأولين منه أوفر نصيب.
والحبوط معنى كلي يفيد بمادته ا: لفساد، كما ذكر القرطبي، رحمه الله، فيتفرع عنه:
الحبوط المادي: كما تفسد الدابة إذا أسرفت في الطعام.
والحبوط المعنوي: حبوط الأعمال بالردة والكفران، ولكل مقام مقال، ولكل سياق دلالته. فهو من قبيل: "المشترك المعنوي" ذي الدلالة الكلية الجامعة: التي تتفرع عنها معان جزئية تبعا لمراد المتكلم، وذلك مئنة من الثراء المعنوي للسان العرب: لسان التنزيل.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[04 - 03 - 2009, 09:56 م]ـ
¥