ومن قوله تعالى: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)
أمر على جهة الوجوب وفيه مزيد حض بدلالة سبب النزول، إذ مال بعض الأنصار، رضي الله عنهم، إلى إصلاح الأموال بعد نصرة الدين، وذلك مظنة التعلق بها، والتعلق بالمال سبب في الإمساك، فجاء الأمر حاسما لذلك، وإن لم يقع بعد.
وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ: الباء زائدة في المبنى زيادةً في المعنى، وقد أطلق الأيدي، وهي بعض، وأراد الأنفس، وهي كل، على وزان قوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، كما نقل ذلك القرطبي، رحمه الله، عن المبرد، رحمه الله، فتكون المسألة من باب: المجاز المرسل ذي العلاقة الجزئية، وقد نص على اليد لكونها آلة الاكتساب المعهودة، فبها يقع غالب كسب الإنسان الخير واكتسابه الشر.
وسبب النزول هنا، أيضا، فيصل في إزالة الإلباس الذي قد يرد على المتبادر إلى الذهن من هذه الآية، فإن المتكاسل يجدها حجة في القعود حفظا للنفس من التهلكة، فيحملها على غير ما نزلت فيه، فقد نزلت في ضد ذلك، إذ التهلكة في القعود عن نصرة الدين، فحفظ الأبدان من الضرورات، ولكن حفظ الأديان مقدم عليه، فإذا كان صلاح الدين بإتلاف البدن، فهي النجاة، وإن كان صلاح البدن بإتلاف الدين فهي الهلكة، فالأديان عمارة للقلوب بالإيمان، وللأبدان بصنوف الطاعات، وتلك الحياة حقيقة مصداق قوله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا)، وكم من أبدان تلفت فجعل الله لها لسان صدق في الآخرين، وكم من أبدان سلمت وقد تخللتها أرواح ميتة، فهي أرطال من الطين الفاني بلا نور من الوحي الهادي.
وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ: جناس اشتقاقي بين: "أحسنوا" و: "المحسنين" يزيد المعنى بيانا إذ علق الحكم في جملة التعليل التي سيقت بلا وصل بمعلولها لشبه كمال الاتصال بينهما، علق الحكم على المعنى الذي اشتق منه الأمر: "أحسنوا"، فكان ذلك أدعى إلى امتثاله، وقد أكدت العلة بـ: "إن"، واسمية الجملة والمضارع وهو مئنة من تجدد الفعل بتجدد الإحسان، وإن كان قديم النوع، فهو من صفات الباري، عز وجل، الفعلية المتعلقة بمشيئته، فنوعه قديم أزلي بأزلية الذات القدسية، وآحاده حادثة بتجدد المشيئة الربانية، فمن وافق المشيئة الشرعية استحق المحبة الإلهية، ومن لا فلا، فالحكم يدور مع علته وجودا وعدما، والكلام دال بمنطوقه مدحا، ومفهومه ذما.
وقد أورد المفسرون كالقرطبي، رحمه الله، في تفسير الإحسان معان مختلفة المبنى متحدة المعنى، فكلها من صور الإحسان، فلا إشكال في حمل الآية عليها إذ هي بمنزلة الأفراد لعموم يشملها، وتوسيع دائرة العموم المعنوي ليشمل صورا عديدة أمر مراد في بيان بلاغة الكتاب العزيز الذي تحوي ألفاظه الموجزة معان مطنبة.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[07 - 03 - 2009, 10:49 ص]ـ
جزاك الله خيرا على المرور وتكرار الشكر فذلك مئنة من حسن الظن وكمال الفضل.
ومن قوله تعالى: (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ)
إن قيل بأن أصل وضع النكث للمحسوسات كالحبال المجدولات صار في الكلام: استعارة مكنية تبعية، إذ شبه اليمين المعنوية بالحبل المادي المحسوس، وحذف المشبه به، وكنى عنه بلازم من لوازمه وهو النقض، وقد وقعت الاستعارة في الفعل المشتق: "نكث" فكانت تبعية من هذا الوجه.
وقد يقال بالعكس، فيكون الوضع الأول للمعاني والثاني للمحسوسات.
¥