وقد يقال بالتوقف، وقد يقال على مذهب منكري المجاز: النكث معنى كلي مشترك يدل على النقض ماديا كان أو معنويا، ومن ثم قيدت أفراده بالمحسوسات الظاهرة أو المعلومات الباطنة تبعا للسياق الذي ترد فيه، فهي تندرج تحت المعنى العام اندراج الأفراد تحت عموماتها.
وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ: إطناب ببيان مجمل النكث، فهو من عطف المبين على المجمل، وقد يقال هو من عطف اللازم على ملزومه، أو هو من عطف المتغايرات، فيكون النكث سببا، والطعن سببا آخر، وذلك أدعى لقتالهم، وأيا كان فإن الإطناب في بيان علة الحكم أمر مراد لذاته لتقرر الأحكام بأدلتها فذلك أدعى إلى الامتثال، وإن كانت الطاعة ابتداء: فرضا لازما، مصداق قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا).
فقاتلوا: أمر فرع عما قبله، إذ قامت العلة بنكثهم فوجد الحكم تبعا لها، فيفيد الشرط بمنطوقه: وجود الحكم بوجود العلة، ويفيد بمفهومه: عدمه بعدمها، فلا يحل قتالهم ما التزموا العهد فلم يأتوا بناقض يحل قتالهم. وقد استدل بعض المحققين من أهل العلم كشيخ الإسلام، رحمه الله، في "الصارم المسلول" بهذه الآية على نقض عهد من تعرض لمقام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالسب أو الانتقاص، وقد وقع ذلك من يهود، أعداء الرسل عليهم السلام، مؤخرا، ولم يتحرك أحد من زبائن موائد المفاوضات التي تحتسى عليها أنخاب السلام: الخيار الاستراتيجي الأول، ولو سب أحدهم لأقام الدنيا انتصارا لنفسه!!.
أئمة الكفر: تجريد، فالقياس: فقاتلوهم، وإنما عدل عنه بيانا لعلة قتالهم، فوصفهم بالإمامة في الكفر جار مجرى التعليل للأمر بقتالهم، أو يقال هو من باب الخاص الذي أريد به العام، فالأمر بقتال رؤسائهم أمر بقتال آحادهم من باب أولى، ولا يتوصل غالبا إلى قتال الرؤساء دون قتال الآحاد، كما أشار إلى ذلك أبو السعود، رحمه الله، في تفسيره.
إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ: مزيد إطناب في بيان علة الأمر بقتالهم، إذ انتفت أيمانهم نفيا عاما أفاده ورود النكرة: "أيمان" في سياق النفي، فقد نقضوا كل يمين بالطعن في دينكم، ولذلك حسن الفصل لشبه كمال الاتصال بين جملة العلة المصدرة بالتوكيد بـ: "إن" الذي رجح جانب العلية فيها، وجملة المعلول التي تقدمتها.
لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ: علة ثانية فقتالهم في هذه الصورة، لينتهوا عن غيهم، فإن انتهوا فقد زالت العلة فيزول الحكم تبعا لزوالها.
والله أعلى وأعلم.
وبطبيعة الحال لم تزل علة حكم قتال يهود الذين طعنوا في الدين بإهانة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، رغم تعطيل الحكم ابتداء خشية انهيار مفاوضات السلام!، فهى أولى بالاعتبار من عرض النبي الأمين صلى الله عليه وعلى آله وسلم!!!.
ـ[مهاجر]ــــــــ[08 - 03 - 2009, 09:05 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)
ألا تقاتلون: حض على قتال أولئك الناكثين، و: "قوما": نكرة في سياق الاستفهام الذي سيق مساق الإلهاب والتهييج فيفيد العموم المعنوي، فليس أي قوم يقاتلون، وإنما يعم الحكم من تحققت فيه صورة السبب المبيح لذلك من الأوصاف التي خصت بها النكرة: "نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ"، و: "وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ"، و: "وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ"، وفي الإطناب في وصفهم مزيد بيان لإجمال عموم "قوما" اللفظي، فإن الأوصاف تقيد الألفاظ، فتدل على معان بعينها، تصلح لأن تعلق عليها الأحكام، فضلا عما في تعداد جرائمهم من مزيد إلهاب لمشاعر المسلمين، وهو ما يتلاءم مع الاستفهام التحضيضي الذي صدرت به الآية.
أتخشونهم: استفهام إنكاري، فيه معنى العتاب، فإذا كان الأمر كذلك، فالله أحق أن تخشوه، فعطفها على ما تقدم بمنزلة الإبطال له، إذ خشية الله، عز وجل، مبطلة لخشية من سواه إلا إن كانت الخشية فيه، فتعظيم الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم والخشية من مخالفة أمره، مما يحمد صاحبه إذ ما فعله إلا خشية من الله، عز وجل، فخشية المرسَل فرع عن خشية مرسِله، وفي التنزيل: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
وبين: "أتخشونهم"، و: "أن تخشوه": جناس اشتقاقي فمادتهما واحدة، وذلك مما يزيد المعنى بيانا.
والإتيان بفعل الخشية في صورة المصدر المؤول من: "أن" وما دخلت عليه مئنة من الدوام والاستمرار، فذلك مما يحمد به العبد، إذ مراقبة الباري، عز وجل، واجبة في كل حال، في: السر والعلن، في الليل والنهار، في السراء والضراء .............. إلخ، فلا يخلو المكلف في كل أحواله من عبادة أو ذكر، فـ: للطعام ذكر، وللنوم ذكر، وللنكاح ذكر ............... إلخ. ومثله في التنزيل: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ)، فاستحضار معنى الصيام طوال نهاره، مما يحمد فاعله، إذ هو أدعى إلى اجتناب ما يبطله أو يخدشه.
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ: شرط سيق مساق الإلهاب الذي اطرد في هذه الآية، على وزان: إن كنت رجلا فافعل، وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا يَرَيَنَّهَا أَحَدٌ فَلَا يَرَيَنَّهَا)، فليس للشرط في مثل هذا السياق مفهوم، ليقال: وإن لم تكونوا مؤمنين فلا حرج عليكم ألا تقاتلوهم، أو: إن لم تستطع ألا يرينها منك أحد، فلا جناح عليك في ترك الستر.
والله أعلى وأعلم.
¥