تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فإن قيل: أهل الكتاب مؤمنون بالله، إذ ليسوا كبقية الأمم ذات الآلهة الأرضية، فهم أصحاب شريعة سماوية، وإن بدلوا فيها ما بدلوا، فالجواب: أنهم حرفوا الرسالة: أخبارا وأحكاما، فمقالتهم في الإلهيات من أفسد المقالات، فصح نفي الإيمان بالله، عنهم، وإن أقروا باللفظ الدال على ذاته القدسية المتصفة بصفات الكمال الإلهية: "الله"، إذ ليس "الله"، عز وجل، هو من اعتقدوه إلها، ولفظ: "الله" كما يقول أحد الفضلاء المعاصرين: لفظ مشترك في جميع اللغات إذ لا تنفك أمة عن إله تعبده، ولا يلزم من ذلك الاشتراك اللفظي: الاشتراك في المعنى، فلا يلزم من الاشتراك في الاسم: الاشتراك في المسمى، بل لفظ: "الله" عند المسلمين دال على مسمى لا يدل عليه لفظ: "الله" عند النصارى أو اليهود أو ........... إلخ من أمم الأرض، فـ: "الله": عز وجل، عند المسلمين: إله كامل قد اتصف بصفات الكمال المطلق أزلا وأبدا، و "الله": عند النصارى قد اتصف بصفات نقص مطلق التزموها بل قرروها في أمانتهم، وهي أوصاف، كما تقدم في أكثر من مناسبة، تغني حكايتها عن إبطالها، فهي أظهر من أن ينقدها ناقد، فلا يرضاها إلا من ختم الله، عز وجل، على قلبه وبصيرته، فإنه لا يرى فسادها المناقض لصحائح المنقول من الرسالات وصرائح المعقول من البينات، وهكذا بتتبع آلهة بقية الأمم تظهر مزية مقالة المسلمين في هذا الباب فهي مقالة مستندها الوحي المعصوم ابتداء المحفوظ انتهاء وليس ذلك لأحد سوانا.

وهذا ضابط في الحكم على أي قول سواء أكان في العلم أو العمل، إذ لا يكفي الوقوف عند مبناه اللفظي دون النظر في معناه، فالمتكلم قد يريد باللفظ ما لا يريده المخاطب، واعتبر بألفاظ من قبيل: "الإرهاب" و "التطرف" ........... إلخ التي يتشدق بها الغرب فيتذرع بها لغزو الشرق المسلم، فإن حد الإرهاب في قاموسه الفكري ليس حده بالتأكيد في قاموس المسلمين الفكري، إذ لا يعني بتلك الألفاظ المنفرة إلا حرب دين الإسلام نفسه، لا حرب مظاهر الغلو والتطرف فيه، وإنما تلك الحجة الظاهرة لستر النية الباطنة.

مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ: "من" جنسية بيانية.

و: "أل" في "الكتاب" عهدية: فالمراد الكتابان الأولان: التوراة والإنجيل.

حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ: غاية القتال، فتفيد بمفهومها وجوب نصب القتال ما امتنعوا عن دفع الجزية، وفي السياق إيجاز بحذف المفعول الأول، إذ دل السياق عليه، فتقدير الكلام: حتى يعطوكم، وقد دلت النصوص الأخرى من قبيل قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ)، على الغاية الأخرى فإما الإسلام، وإما الجزية، وإما السيف، ولو كان المراد مجرد القتل والسلب، ما كان لغاية الإسلام فائدة، فإن الإسلام يحقن الدم ويعصم المال، فلا يزال الملاك عن أراضيهم، بل لا يزال الملوك عن عروشهم إذا ارتضوا الإسلام دينا، فحكموا به أممهم، وكانت تلك سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع من أسلم من الملوك ورؤساء القبائل والعشائر، فلم يكن يولي عليهم إلا من ارتضوه منهم.

ولو كان القتل والسلب غاية ما كان للجزية فائدة فهي لا ترد طامعا، إذ ليست كمكوس الروم وفارس التي ضربوها على الزراع، الذين عرفوا صدق الرسالة من أخلاق الفاتحين، فكان إسلام أحدهم أحب إليهم من ماله وأرضه، وقد استاء خالد، رضي الله عنه، من أهل الحيرة لما اختاروا الجزية على الإسلام فقال: "تبا لكم، إن الكفر فلاة مضلة، فأحمق العرب من سلكها"، ولما فتحت دمشق: عنوة من جهة، وصلحا من جهة أخرى، أجروها صلحا، وقياس المصلحة الدنيوية العاجلة: جعلها عنوة ليغنمها الغزاة كاملة، أو على أقل تقدير: جعل النصف منها عنوة لئلا تضيع جهود المقتحمين، وليست تلك بأخلاق لصوص طامعين، وإنما تلك أخلاق غزاة فاتحين. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تسرد في هذه العجالة.

وسيف الإسلام كان سيف رحمة باعتراف كل منصف من أبناء البلاد المفتوحة، أزاح عن كواهل أهل الشام ومصر عبء قيصر، وأزاح عن كواهل أهل العراق وفارس عبء كسرى، ولم تعرف بلاد كمصر معنى الحرية الدينية التي يتشدق بها الغرب اليوم إلا على يد عمرو، رضي الله عنه، فتخلص نصارى مصر الأرثوذكس من طغيان الروم الكاثوليك، فانشرحت الصدور لدين التوحيد، فنبذ جل أهلها ديانة التثليث، وتلك صورة جديدة من صور فتح البلاد والقلوب بسيوف الحق الهادية، فكتاب هاد يبصر، وحديد ماضٍ ينصر، مصداق قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ).

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير