وهذا، أيضا، من المواضع التي تصلح لأن تكون مثالا على الألفاظ التي استعملها العرب لغير ما وضعت له، على التسليم بالوضع الأول، حتى هجرت الحقيقة فلا يكاد يعرفها أحد، واشتهر المجاز، فنزل، كما تقدم، منزلة الحقيقة العرفية العامة التي يعرفها أكثر المتكلمين بلغة الضاد.
ومن الأمثلة الأخرى على ذلك:
لفظ المراء: فقد نقل من مراء الحالب اللبن من الضرع، أي استخراجه إلى المراء في الجدال لأن المماري يحتال لاستخراج ما عند صاحبه، فالمعنى الأصلي مهجور والمعنى الفرعي هو المشهور.
والعذل: فقد نقل من الإحراق إلى اللوم، وكأن فيه استعارة الإحراق الحسي للإحراق المعنوي.
والإملاء: وهو يكون للدابة بإرخاء القيد، كما ذكر صاحب اللسان، رحمه الله، فنقل إلى إرخاء الأجل للكافرين استدراجا في نحو قوله تعالى: (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)، فكأن فيه، أيضا، استعارة الإرخاء الحسي للإرخاء المعنوي.
والغائط: وأصله المكان المنخفض، ثم صار يطلق على الخارج لأن العرب كانت ترتاد الأماكن المنخفضة لقضاء حوائجها.
والعذرة: وأصلها فناء الدار، لأن العرب كانت تلقي المخلفات فيها، فصارت مجازا مشتهرا على الخارج وكاد الوضع الأول أن يندثر.
والمسألة تستحق إفرادها بالجمع والتحرير، ومن مظانها مبحث: الحقيقة والمجاز، لا سيما الحقيقة العرفية والمجاز المشتهر في كتب البلاغة وأصول الفقه.
وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ: كونا، فالله، عز وجل، أراد منهم الإيمان شرعا، ولكنه طبع على قلوبهم فحرمهم الهدى كونا، فحصل لهم من البيان الشرعي ما حصل للمؤمنين، مع سلامة أبدانهم وصحة آلاتهم، ولكنهم لم يوقفوا بخلق إرادة الخير في قلوبهم، فلم يعنهم الله، عز وجل، على الطاعة، كما أعان المؤمنين، وفي التنزيل: (وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ)، فجرى على الكافرين والمنافقين عدله، وجرى على المؤمنين فضله، وهو أعلم بحكمته البالغة بالمحال التي تقبل الهدى، فيضعه في قلوب أوليائه، ويحرمه قلوب أعدائه، فيصرف قلوب الأولين على الطاعة بمقتضى كلماته الشرعية، ويصرف قلوب الآخرين على المعصية بمقتضى كلماته الكونية، ولا استقلال لكليهما بفعله خلقا، وإن صح قيامه بهما وصفا، فالرب: خالق بكلماته التكوينية، والعبد فاعل بإرادته التأثيرية، فهي سبب خلقه الله، عز وجل، في عبده، والسبب المخلوق لا يخرج في عمله عن إرادة خالقه، فلا تخرج إرادة العبد المخلوقة عن إرادة الرب الخالقة.
فالجهة منفكة: جهة الرب خلقا وجهة العبد فعلا.
وفي الكلام: إيجاز بالحذف، إذ حذف فاعل الطبع للعلم به، وهو الله، عز وجل، على التفصيل المتقدم.
فهم لا يفقهون: في الفاء معنى الفورية والسببية كما اطرد من معانيها، فمسبَب الطبع الكوني: عدم الفقه الشرعي، فلا ينتفعون بما يبلغهم من الكلمات الشرعيات، لانسداد طرق الهدى إلى قلوبهم بموجب الكلمات الكونيات.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[27 - 03 - 2009, 08:38 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)
استدراك ببيان الضد، على طريقة القرآن من الجمع بين المتقابلات إمعانا في بيان المتضادات، فمقابل تخاذلهم الصادر عن نفاقهم: (الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ)، ومعيتهم له: معية نصرة وتأييد، وإن استغنى بنصر الله، عز وجل، وتأييده، عن نصرة وتأييد سواه، مصداق قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)، فهم معه بالانقياد الباطني، مشفوعا بالانقياد الظاهري جهادا بالنفس والمال، فدعواهم الإيمان مشفوعة بجهاد المال والأبدان، فهو ذروة سنام الملة، وبه يصان الدين وترتفع ألوية السنة.
¥