وعلى التقدير الأول يكون في الكلام حذف، أيضا، بتقدير: لا يستأذنك المؤمنون في أن يجاهدوا، فحذف الجار الذي دخل على المصدر المؤول من: "أن" ومدخولها، والإتيان به مؤولا لا صريحا، مطرد في المواضع التي تستلزم التوكيد والتجدد، إذ دلالة: "إن" عليهما أقوى من دلالة المصدر الصريح، والجهاد عبادة تتكرر بتكرار دواعيها طلبا أو دفعا.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ: تذييل معنوي يناسب السياق، فالله، عز وجل، عليم بالمتقين الذين صدقت نواياهم فلا يستأذنون في القيام بالطاعة الواجبة، ولا يتعللون بالحجج الواهيات إيثارا لسلامة عاجلة. وتعلق العلم بوصف التقوى إشارة لطيفة إلى علة الامتثال فإنه لا يبادر به إلا من اتصف بكمال التقوى.
وعلى الجانب الآخر، وعلى طريقة القرآن المطردة في بيان المتقابلات بإيرادها متعاقبة:
إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ: فيقال فيه، أيضا، بإيجاز الحذف على تقدير إنما يستأذنك في القعود الذين لا يؤمنون بالآخرة ....... ، فتتحقق صورة المقابلة أو طباق السلب بين الآيتين: فالأولون: يؤمنون إيجابا، والآخرون: لا يؤمنون سلبا. والأولون: لا يستأذنون في القعود سلبا، والآخرون: يستأذنون في القعود إيجابا، فللمؤمنين من أوصاف المدح: الإيجاب، ومن أوصاف الذم: السلب، وللآخرين العكس، وهذا من أبلغ ما يكون في بيان الأمر بضده.
وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ: أي أنفسهم، فأسند الريبة إلى القلب لكونه محل المعاني والعقود، فبه تعقد الهمم طاعة أو معصية، وبه تنفسخ، فهو مناط التوفيق والخذلان، فمن شاء الله، عز وجل، وفقه إلى عقد الإيمان فضلا، ومن شاء خذله فانفسخ عقد إيمانه عدلا، فتصريف القلوب إقامة وإزاغة بين أصبعيه، وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، مرفوعا: (إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ).
فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ: فمتى فسخ عقد الإيمان زال اليقين وحلت الريبة محله فصاحبها في أمر مريج، يتردد بين الإرادات المتعارضة، واعتبر بحال من أعرض عن الوحي في زماننا، فهو اليوم شيوعي وغدا رأسمالي وبعد غد ليبرالي .......... إلخ، فيتلون تلون الحرباء تبعا لتغير المصالح والأهواء.
وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ: فلو أرادوا الخروج امتثالا للأمر الشرعي لبذلوا السبب، فإن الفعل يصدق القول، والعلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل، كما أثر عن بعض أهل العلم، ولكن الله، كره انبعاثهم لما علم ما في قلوبهم، فأراد منهم الخروج شرعا، ولكنه منعهم إياه كونا، فكرهه إلى نفوسهم بإرادته الكونية النافذة، لما علم أنهم ليسوا أهلا له، بل هم أهل للعقاب بالحرمان من الطاعة، فخذلهم وثبطهم عدلا،
وقيل: اقعدوا مع القاعدين: فالأمر فيه إهانة لهم، على وزان:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ******* واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
وحذف الفاعل في: "وقيل" للعلم به، وقد يقال بأن فيه مزيد إهانة لهم بعدم ذكر اسم الله، عز وجل، فحرموا حتى جوار اسمه الكريم ولو في معرض الذم والتوبيخ.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[29 - 03 - 2009, 08:47 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)
¥