استفهام إنكاري توبيخي على طريقة الالتفات من الغائب في الآية السابقة: "فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ"، إلى المخاطب في قوله تعالى: "أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ" إمعانا في التوبيخ بتوجهه إليهم مباشرة.
وفي الآية تشبيه فعل: "سِقَايَةَ الْحَاجِّ"، بعين: "مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ"، فوجب تقدير مضاف هنا أو هنا، كما أشار إلى ذلك أبو السعود، رحمه الله، فيؤول الكلام إلى: أجعلتم من يسقي كمن يغزو، أو: أجعلتم فعل السقاية كفعل الجهاد.
آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: عطف الجهاد على الإيمان: عطف خاص على عام، كما تقدم مرارا، وأظهر لفظ الجلالة: "الله" في مقام الإضمار لسبق ذكره، فتقدير الكلام: وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِه، أظهره على التفصيل السابق تنويها بالجهاد المعتبر بتعظيم سبيله، فالجهاد وسيلة للنصرة، وعظمة النصرة من عظمة المنصور، وعظمة الجهاد من عظمة سبيله، فلا يستوي من جاهد في سبيل الله، ومن جاهد في سبيل الحرية والمساواة والإخاء والإنسانية والحب أحيانا! ......... إلخ.
لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ: فصل لانتقال السياق من الإنشاء بالتوبيخ إلى الإخبار عن حال الفريقين، وهو لا يخلو مع كونه خبرا محضا من جهة المبنى عن توبيخ بالتعريض من جهة المعنى، ويقويه في هذا الباب: التعريض بعدم هداية الظالمين، هداية التوفيق الكونية، وإن هدوا هداية البيان الشرعية كما تقدم مرارا.
فالتعريض بعدم التسوية بين:
القاعد عن الجهاد مكتفيا بزخرفة المساجد، كما هو حال كثير من حكام المسلمين اليوم، فكل ملك وأمير ورئيس يتفنن في بناء مسجد يخلد ذكراه وإن قصر العبودية على الصلاة فيه إن كان يصلي أصلا!.
والقائم في سبيل الله، فيه نوع توبيخ للقاعد شفع بتعريض آخر، أظهر فيه لفظ الجلالة في مقام الإضمار، مبالغة في الزجر، فعظم العقوبة من عظم من يوقعها، وأي عقوبة أعظم من سد منافذ الهداية عن قلوب الظالمين عدلا منه، عز وجل، جزاء وفاقا لمن ظلم بتكذيب الشرع أو مخالفة أحكامه.
وفي المقابل وعلى طريقة الكتاب العزيز في التثنية بذكر المتقابلات إمعانا في البيان:
الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ: استئناف ببيان حال الضد فيه إطناب على طريقة العام المشفوع بالخاص، تنويها بالهجرة والجهاد، والترتيب بينهما: ترتيب وجودي فالهجرة تسبق الجهاد غالبا كما وقع للصدر الأول، رضي الله عنهم، وفي ذكر محاسنهم تنويه بها وحض على الاتصاف بها، على طريقة التعريض، فأولئك هم: أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ، فقدم المسند إليه الذي جاء بصيغة الموصول تنبيها على علية ما اشتقت منه صلته والمعطوف عليها: الإيمان والهجرة والجهاد، للمسند: "أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ"، وأخر المسند تشويقا إليه، فإن النفوس لما علمت أوصاف أولئك السادة الممدوحين اشتاقت إلى معرفة جزائهم، وفي ذلك مزيد حض على امتثال طريقتهم.
وقد أطنب في الجزاء فذكره مجملا: "درجة"، وأثنى على أصحابه بوصف الفوز محصورا عليهم بدلالة ضمير الفصل: "هم"، ثم أتبع ذلك ببيان واف:
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ:
فالبشرى على حقيقتها بخلاف بشرى المشركين تهكما في نحو قوله تعالى: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).
وأسند البشرى إلى الرب، جل وعلا، وخص المبشَرين بوصف الربوبية: تخصيصا في مقام الثناء، فهو ربهم ورب غيرهم: الربوبية العامة: ربوبية الخلق والتدبير، ولكنه ربهم هم وحدهم: الربوبية الخاصة: ربوبية الثواب فرعا عن الرضا عنهم والمحبة لهم.
والرحمة منه جل وعلا، وفي نسبتها إليه تعظيم لشأنها إن كانت صفة، فعظم الصفة من عظم الموصوف بها، فأي رحمة أعظم من رحمته، جل وعلا؟!.
وتشريف لها لا يخلو من تعظيم، إن قصد بها الجنة، الرحمة المخلوقة، فتكون من باب إضافة المخلوق إلى خالقه تشريفا، ويؤيد معنى العظمة: ورودها منكرة تفيد التقليل، فقليل الرحمة منه، جل وعلا، عظيم، على وزان:
قليل منك يكفيني و لكن ******* قليلك لا يقال له قليل
وقل مثل ذلك في الرضوان فأقل رضوان منه، جل وعلا، هو الفوز المبين، وأي فوز أعظم من الفوز برضا رب العالمين.
ويؤيد كون الرحمة هي الصفة لا الجنة المخلوقة، ورود ذكر الجنة بعد ذلك في سياق بيان جزائهم:
وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ: إذ الأصل في الكلام: عدم التكرار، فلو فسرت الرحمة بالجنة ابتداء، ثم ثني بذكرها انتهاء، كان الكلام من باب التوكيد، بخلاف ما لو فسرت بصفة الجمال الإلهية: الرحمة الخاصة: رحمة الرحيم بعباده المؤمنين وحدهم، فإن الكلام يكون من باب التأسيس، وإذا دار الكلام بين التوكيد والتأسيس فحمله على التأسيس أولى، إذ يفيد معنى جديدا، وفي ذلك إثراء للسياق بتعدد مدلولاته.
وقدم: "لهم": حصرا وتوكيدا على ما اطرد في كلام البلاغيين، واستعار وصف الإقامة للنعيم، وفيه مزيد بشرى، إذ نعيم الدنيا مهما عظم مفارَق، فإما أن يرحل وإما أن يرحل صاحبه، بخلاف النعيم المقيم، وأكد على ذلك إمعانا في البشرى: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا: فهو مقيم لا يفارقهم، وهم خالدون لا يفارقونه.
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ: تذييل معنوي يناسب ما اطرد في سياق أجر المؤمنين المجاهدين، وقد استغرق بيان ذلك الأجر آيتين وبضع آية، وهو لمن اعتبر باعث على امتثال التكليف الإلهي طمعا في الثواب الرباني.
والله أعلى وأعلم.
¥