فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ: أمر يفيد التهديد على وزان قوله تعالى: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، وأبهم المصير: فلم يذكر كنه ذلك الأمر الكوني الآتي إمعانا في الزجر والتهديد، وأظهر اسم الجلالة في مقام الإضمار تربية للمهابة، كما اطرد في سياقات التهديد، وعرض بهم بالنص على عدم هداية الفاسقين، فأولى لكم ألا توافقوهم لئلا تجري عليكم أحكامهم طردا، وإنما السلامة أن تخالفوهم فيجري عليكم ضد أحكامهم عكسا، على ما اطرد في الكتاب العزيز من الطرد والعكس، فإن الكلام يفيد بمنطوقه: ذم الفاسقين وذم من سار على طريقتهم طردا، ويفيد بمفهومه: مدح المؤمنين ومدح من سار على طريقتهم طردا، ولا يكون ذلك بداهة إلا بعدم السير على طريقة الفاسقين عكسا.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[02 - 04 - 2009, 07:52 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ)
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ: توكيد بإيراد المصدر النائب عن عامله، فدلالته في الثبوت المؤكد على وجوب الفعل أقوى من دلالة عامله المحذوف الذي يفيد التجدد بمادته، فكأن الأمر ثابت بداية فلا مجال للتردد أو المناقشة فيه، فهو: حتم لازم.
وإلى ذلك أشار أبو السعود، رحمه الله، بقوله:
" {فَضَرْبَ الرقاب} أصلُه فاضربُوا الرقابَ ضرباً فحُذفَ الفعلُ وقُدِّمَ المصدرُ وأُنيبَ مُنابَهُ مُضافاً إلى المفعولِ، وفيِه اختصارٌ وتأكيدٌ بليغٌ". اهـ
ووجه الاختصار فيه أنه لا يجمع بين البدل والمبدل منه في سياق واحد حذرا من التكرار المعيب، فيكتفى بإيراد أحدهما دالا على نفسه أصالة وعن الآخر نيابة، فيتحقق التوكيد معنى والاختصار لفظا.
وضرب الرقاب: كناية عن القتل فإنه يكون بغير ضرب الرقاب، ولكن الأظهر في ذلك الزمان: زمان القتال بالسيف، حصول القتل بضرب العنق، فهو أحق أفراد عموم القتل بالذكر، آنذاك، ولكل زمان سيفه، فلا يعني ذكر فرد من أفراد العموم تخصيصه، وإنما المراد وقوع النكاية بالقتل المشروع بلا تحريق أو مثلة على تفصيل ليس هذا موضعه.
حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ: فيوقع القتل المنكي فيهم أولا، ثم يتخذ الأسرى منهم ثانيا، فكنى بذكر الوثاق عن الموثَق به، إذ لا ينفك الأسير غالبا عن وثاق يقيده.
فالأمر على ذلك للندب، إذ ليس اتخاذ الأسرى بواجب، وإنما هو تبع للمصلحة الشرعية التي تتفاوت تبعا لتفاوت الحال، فيكون اتخاذهم أسرى أحيانا أولى، ويكون قتلهم أحيانا أخرى أولى، ولا ينظر في ذلك إلا أولوا الأمر والعلماء الربانيون الذين يملكون آلة الاجتهاد طلبا للمصلحة العظمى إذا تعارضت المصالح، فالمصلحة في تلك الصورة مترددة بين: قتلهم لإحداث النكاية في العدو، وإبقائهم للفداء أو المن عليهم إن كان يرجى إسلامهم ......... إلخ.
ولذلك قال: (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً)، وفيه إيجاز بحذف العامل وجوبا لدلالة المصدر النائب عنه عليه فلا يجمع بين البدل والمبدل منه كما تقدم.
فتقدير الكلام: فإما تمنون منا وإما تفدون فداء، فأما: تفريعية لأوجه القسمة العقلية في شأنهم.
ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ: كونا فالله، عز وجل، قادر ابتداء على إفنائهم بقدرته الكونية النافذة.
¥